«تفكيك الوهم».. روشتة نبيل عبدالفتاح لحل مأزق الثقافة العربية
- الجمود الفكرى العام سببه «تديين» اللغة وجمودها وتحولها إلى «شبه مقدسة»
- المواجهة مع الموروث تم استغلالها سياسيًا فى السبعينيات وأظهرت «الإنسان الاستهلاكى»
- الحل فى إنتاج خطاب سياسى وثقافى مغاير للخطابات الأخرى المتبناة فى السنوات السابقة
- نحتاج إلى إنتاج أدبى وفنى أكثر تحررًا من هياكل المحرمات الاجتماعية والثقافية
يمكن أن نعتبر أن هذا الكتاب الذى نتحدث عنه اليوم واحدًا من أهم الكتب التى صدرت بالعربية مؤخرًا، إن لم يكن أهمها.
الكتاب هو «تفكيك الوهم- مصر والبحث عن المعنى فى عالم متحول»، للصحفى والمفكر الدكتور نبيل عبدالفتاح، الصادر حديثًا عن «سلسلة الهوية»، التى تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
فى البداية لماذا يمكن أن نعتبر الكتاب من أهم الكتب التى صدرت مؤخرًا؟
فضلًا عن الأسباب التى سنوردها من خلال المقال، يمكن أن نقول- باختصار- إن الكتاب لم يغادر صغيرة ولا كبيرة تخص الشأن العربى عمومًا والمصرى تحديدًا إلا وتناولها بشكل علمى وبحثى وموسوعى وفكرى، بداية من الثقافة والتعليم، والدور الذى يلعبه الإعلام، مرورًا بالأزمات الاجتماعية والفكرية، وصولًا إلى الأزمات السياسية، وعلاقة العرب بالتغيرات والتحولات الكبيرة التى تحدث فى المشهد السياسى العالمى.
فى الصفحات الأولى من الكتاب، فى فصل التمهيد المعنون بـ«البحث عن لغة جديدة تخترق اللغة المسيطرة»، يبدأ الكاتب فى تحليل واقع الأزمة الثقافية، عائدًا إلى أزمة اللغة التى لم تواكب عمليات التحديث التى جرت فى العالم، وينادى بضرورة تغيير اللغة كذلك.
يقول: «تبدو الأهمية الخاصة باللغة فى درس الأنظمة اللغوية وقواميسها من حيث قدرتها وكفاءتها على التطور والتكيف السريع مع العوالم المتحولة فى التقنيات والعلوم الطبيعية والاجتماعية، والأهم مع الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى».
يرجع الكاتب سبب حالة الجمود الفكرى العام إلى جمود اللغة نفسها، حيث أصبحت اللغة شبه مقدسة بعد أن تم «تديينها».. «فتديين اللغة واستخدام البلاغة القديمة ذات التحديد الأحادى والمغلق والماضوى، وكذلك الخوف الرهابى على الموروث الدينى الوضعى من التبدد فى بعض الأحيان، يمثل عائقًا ضد تطورها، وذلك لأسباب سياسية ودينية وضعية بامتياز فى غالب الأحيان».
بعد ذلك ينتقل الكتاب لتأمل ما أطلق عليه «الموروث الدينى الوضعى»، الذى أصبح مع مرور الوقت مقدسًا، وسببًا فى تقلص دورنا الاجتماعى والثقافى على ساحة الحركة الإنسانية، والذى تم استبداله بجوهر الدين، أو أصبح تتم الإشارة إليه على أنه «صحيح الدين»، بالرغم من أن هذا الخطاب أصبح سببًا فى تشويه صورة المؤمنين بهذا الدين لدى الطرف الآخر وهو الغرب، بعد عمليات العنف الخطابى والفعلى المتمثل فى الخطابات التى تحض على كراهية الآخر المختلف، أو الإرهاب.
يقول الكاتب إن «هذا التأويل الدينى الوضعى يتمركز فى الأساس على بعض المراحل التاريخية المعينة، التى تم من خلالها إنتاج منظومة فقهية وتأويلية، كانت تعبيرًا عن عصرها، وظواهره ومشكلاته وأسئلته وأفكاره السائدة».
وبالتالى أصبح فى العصر الحاضر، مع كل هذه التحولات التى شهدها العالم، لا بد من إعادة النظر فى هذا الموروث ذى النزعة الماضوية، لأنه خطاب تم تأسيسه فى حقبة ما على يد أشخاص كانوا يحاولون مواجهة مشكلة خاصة بزمنهم، هذه المواجهة مع الموروث تصبح أكثر حتمية مع مرور الوقت حتى لا تستخدمها بعض الأنظمة سياسيًا، كما حدث فى بعض الأوقات، تحديدًا فى سبعينيات القرن الماضى، حين تم استغلال هذا التيار كسلاح سياسى.
هذا السلاح السياسى الذى تم توظيفه وكان سببًا فى التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى طرأت على المجتمع فى السنوات التالية لحرب أكتوبر ٧٣، التى تمثلت فى هيمنة السوق الرأسمالية على المجتمع، وجعل المواطن أكثر استهلاكًا للسلع التى تم الترويج لها عبر أجهزة دعاية وإعلان ممنهجة، والذى سينتج ما سماه الكاتب «الإنسان الاستهلاكى»، وهو الإنسان الذى يستهلك أشياء قد تبدو بعيدة كل البُعد عن احتياجاته الأساسية.. هذه كلها أسباب وسياسات قادتنا إلى تفكيك القطاع العام شيئًا فشىء، وبيعه من خلال ما سُمى بـ«الإصلاح الاقتصادى» ثم «الخصخصة» و«الرسملة النيوليبرالية»، التى اتبعتها الدولة منذ تسعينيات القرن الماضى.
يربط الكاتب كل هذه العناصر ودورها وتأثيرها الخطر على حياة المصريين وواقعهم، لكنه وفى الوقت نفسه لا يتركنا لليأس، بل يضع لنا حلولًا ومحاولة للإجابة عن الأسئلة التى يطرحها، ويمكن أن تنجينا من هذا المأزق.
وتتلخص هذه المحاولة على الإجابات فى ضرورة إنتاج خطاب سياسى وثقافى مغاير للخطابات الأخرى التى تم تبنيها فى السنوات السابقة، وزرع هذه القيم الجمالية والتقدمية فى صميم الإنتاج الأدبى والفنى، وجعله أكثر تحررًا من «هياكل المحرمات الاجتماعية والثقافية»، وأن تكون الثقافة فى جوهرها كما قال جاك بيرك: «ليست سوى مسيرة مجتمع يبحث عن معنى وعن تعبير». أى يكون دور الثقافة والفنون الحقيقى هو مساءلة الواقع، وخلخلة الثوابت التى هى فى حقيقة الأمر من أسباب تخلفنا.
وعليه ينادى الكاتب بتمكين أصحاب العقول المختلفة والمتفردة، وأصحاب المواهب الحقيقية، وأصحاب الرؤى المختلفة، فى كل القطاعات الإعلامية المقروءة والسمعية والمرئية، لأن هؤلاء هم الذين يستطيعون رؤية الأشياء والأزمات من رؤى مغايرة.
وفى الأخير يبقى الكتاب محاولة للتفكير الجاد والعلمى والموضوعى، ومحاولة جادة للاصطدام بالأسئلة التى يجب أن نحاول البحث عن إجابة لها، لأنها أسئلة تخص صميم أزمتنا وصميم واقعنا، لنعرف كما قال الكاتب دورنا الحقيقى فى ظل «عالم مختلف يتخلق فى ظل الغموض وعدم اليقين، والسؤال الذى لا إجابة له: أين نحن من كل هذه التغيرات والتحولات؟!».