فبراير القصير المكير «١-٢»
من الأمور المثيرة فى مقدرات الحياة أن شهرًا مثل فبراير من أقصر شهور السنة، يصبح من الشهور ذات الدلالة فى التحولات المهمة فى تاريخ مصر المعاصر. وفى الحقيقة لا أجد تفسيرًا منطقيًا لذلك، أتصور أحيانًا أن ذلك ينبع من كونه الشهر الثانى فى السنة، فبالتالى نجد فيه حصاد البدايات، وأحيانًا أميل إلى نظرية اللا سببية، أى عدم البحث عن الأسباب، واللجوء إلى نظرية «مكر التاريخ»!
وسأحاول هنا الإشارة إلى هذه الظاهرة من خلال التركيز على بعض الأحداث المهمة التى وقعت فى شهر فبراير، وكان لها دور مهم فى وضع التاريخ المصرى المعاصر على مفترق طرق. وبالقطع سأبدأ بالحدث الأقدم تاريخيًا وهو تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، هذا التصريح الشهير الذى كان فى حقيقة الأمر، ثمرة كفاح المصريين، ودماء الشهداء فى ثورة ١٩١٩ من أجل الاستقلال؛ إذ اضطرت بريطانيا- وأضع ألف خط تحت «اضطرت»- أمام زخم الثورة المصرية إلى إصدار هذا التصريح الشهير، الذى اعترفت فيه صراحة باستقلال مصر مع بعض التحفظات. بالقطع شكلت هذه التحفظات عقبة خطيرة أمام الاستقلال التام، لكن على الأقل تم الاعتراف لأول مرة من وجهة نظر القانون الدولى باستقلال مصر، ولم تعد مصر ولاية عثمانية، أو محمية بريطانية. هل أصدقكم القول إن وضع مصر القانونى كدولة على الساحة الدولية يستند فى الأساس إلى تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، وما ترتب عليه بعد ذلك من اتفاقيات دولية اعترفت بمصر كدولة مستقلة تحت مسمى «المملكة المصرية»؟ وأن وضع مصر كدولة ذات سيادة فى العالم معترف بها حتى الآن يرجع إلى ذلك التاريخ؟ وتدرك وزارة الخارجية المصرية ذلك الأمر، لذلك احتفلت العام الماضى بمئوية الخارجية المصرية؛ حيث أصبح لمصر الحق لأول مرة أن يكون لها تمثيل دبلوماسى خارجى بشكل كامل، وكان قبل ذلك التاريخ منقوص الصلاحية والدلالة، بحكم أن مصر كانت إما ولاية عثمانية أو محمية بريطانية. وسيترتب على هذا التصريح وإعلان قيام المملكة المصرية، البدء فى إعداد قانون «الجنسية المصرية» وطرح السؤال الهوياتى والقانونى حول مَن هو المصرى؟ كما ستبدأ المملكة المصرية فى البدء فى إعداد الخطوات نحو إصدار الدستور المصرى، وهو دستور ١٩٢٣، هذا الدستور الذى وصف بأنه حلم المصريين، الذى دافع عنه المصريون عندما تم إلغاؤه فى عام ١٩٣٠، حتى عاد مرة ثانية فى عام ١٩٣٥.
هل أحدثكم عن الحادث الآخر الذى غيَّر من مقدرات تاريخ مصر المعاصر وقع أيضًا فى شهر فبراير؟ إنه حادث ٤ فبراير ١٩٤٢؛ فى هذا اليوم حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين، وأجبرت بريطانيا الملك فاروق على المجىء بحكومة على رأسها النحاس، لكى يلتزم بنصوص معاهدة ١٩٣٦، بعدما مال الملك إلى جانب المحور، وأحست بريطانيا بالخطر قادمًا من اتجاه العلمين وجيوش روميل، والخطر الداخلى من القصر المتعاون- من وجهة نظرها- مع المحور. هذا التاريخ يمثل نقطة فارقة فى تاريخ مصر المعاصر؛ إذ اتهم البعض النحاس بالخيانة، لأنه من وجهة نظرهم جاء إلى الحكم على أسنة رماح الدبابات الإنجليزية، بينما كان النحاس واقعيًا لأنه أدرك أن عدم قبوله الحكم فى ذلك الوقت العصيب قد يعنى عودة الحال إلى «الحماية البريطانية» كما كان عليه الحال أثناء الحرب العالمية الأولى. كان النحاس يفكر بأن السياسة هى «فن الممكن»، وبالفعل لا يمكن الطعن فى وطنية النحاس، لكن الذى لا شك فيه أن حادث ٤ فبراير ١٩٤٢ تم استغلاله من جانب تيارات أخرى مناوئة للوفد، وأن هذا الحادث كان بداية سحب البساط من تحت أقدام الوفد لصالح تيارات سياسية أخرى، وجماعات أيديولوجية سيكون بيدها بعد ذلك القدرة على تغيير اتجاهات التاريخ المصرى المعاصر.
وفى المقال المقبل نستكمل حكاية شهر فبراير، القصير المكير، فى تاريخ مصر.