رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«صندوق الرمل».. الأنا والآخر فى مرآة الإنسانية المُهدرة

عائشة إبراهيم
عائشة إبراهيم

لا تروم الروائية الليبية عائشة إبراهيم فى روايتها «صندوق الرمل» تأسيس مرثية جديدة لما فعله الاستعمار ببلداننا العربية، عبر ثنائيات تقليدية قوامها الأنا المظلوم والمقهور والآخر الشيطانى، وهى أيضًا غير راغبة فى إدانة طرف أو تبرئته، لكنها فى المقابل تؤسس لتجاوز تلك الثنائيات العتيدة نحو سؤال عما يعنيه كل هذا الشر والتجرد من الإنسانية التى تتكرر فى حروب لا طائل منها. 

تستعيد الرواية حقبة حرجة من تاريخ العالم، مطلع القرن العشرين، وتحديدًا العام ١٩١١ الذى شهد الغزو الإيطالى لليبيا، حقبة أُطلق عليها عصر التطرفات؛ فلم تكن ليبيا هى الوحيدة التى غزتها المطامع الاستعمارية المستعرة حينذاك بل كان شرر الاستحواذ والهيمنة على البلدان الضعيفة ذات الثروات الطبيعية ينتشر فى أوروبا انتشار النار فى الهشيم، مؤذنًا بصراعات لم تتوقف سوى بحربين عالميتين أنهكتا العالم ووضعتا فكرة «الآخر المتقدم والحضارى» محل استشكال.

السيطرة على العقول

على الرغم من أن الرواية تبدأ منذ ذلك التاريخ المحدد للغزو الإيطالى لليبيا لكنها تُضمر، وربما تستعيد بين سطورها، تاريخ عصر التنوير الأوروبى الذى جاء بوعود التقدم الإنسانى والحضارة التى تحترم إنسانية الإنسان لتبرز الجانب الآخر منه؛ ذاك الذى أجج المطامع الرأسمالية لتصير صراعًا لا يخمد بين قوى عدت ذاتها حضارية، لنرى مسارها الذى انحرف نحو سحق الإنسانية فى خضم دوران آلة الرأسمالية التى لا ترحم. 

تسعى الرواية إلى الكف عن إدانة الآخر بصفته كلًا موحدًا ذا سمات معروفة سلفًا، فليس كل «الآخر» استعماريًا متعطشًا للدماء والنهب والسرقة. هذا لا يعنى أن الكاتبة وبمقابلة تبسيطية تُبرِئ الآخر، لكنها تُدين فى المقام الأول تلك الرأسمالية الاستعمارية التى سحقت الأطراف جميعها دون تفكّر سوى فى جنى مزيد من المكاسب على حساب الإنسانية بل وفوق جثتها. 

تُبرز الرواية فكرة «تفاهة الشر» كما نظّرت لها الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت، فهؤلاء الجنود الذين جرى اقتيادهم إلى الحرب فى ليبيا لم تكن الحرب خيارهم الواعى المعبر عن دوافعهم الحقيقية، لكنهم كانوا أداة من أدوات سلطة غاشمة تسعى للهيمنة وتتلاعب بهم بشتى الأدوات؛ تارة تحت ستار الدفاع عن الدين ومحق الإسلام وتارة أخرى دفاعًا عن القومية والحضارة والدولة العظمى، هنا يكشف السرد، وبمظهر حيادى تام، أساليب الدول الاستعمارية المتكررة فى الاستيلاء على عقول البشر.

كاميرا الراوى العليم

يجرى السرد على لسان الراوى العليم الذى يسرد بالتوازى قصة جانبين أذلّتهما الحرب؛ الأول هو الجانب الإيطالى ممثلًا فى الجندى الإيطالى ساندروا الذى عانى صراعات نفسية بسبب الحرب وجرائم القتل البشعة التى دُفع نحوها، راسمًا المراحل القاسية التى مرّ بها الجندى التى قادت إلى تحويله من فنان حالم ورومانسى إلى جندى فظ يقتل بلا حساب. 

أما الجانب الثانى الذى يسرده لنا الراوى العليم فهو أهالى ليبيا، لا سيّما أسرة الفتاة حليمة التى هُزِمت أحلامها فى حرب قاسية مُذلة، لتواجه المهانة والمرض مع أخيها الطفل فى المنفى المختار بعد أن قُتلت أمها أمام ناظريها.

توظف الرواية تقنية الاسترجاع لسرد التفاصيل المؤلمة التى عاشها الجندى وفصولًا من حياته التى لم تكن الحرب عنوانًا أو حتى مجرد هامش فيها، ليجد نفسه متورطًا فى جريمة بشعة، بمشاركته فى قتل ستمائة عربى من بينهم ما يربو عن مائة وعشرين امرأة وثمانين طفلًا. 

وفى الآن ذاته، يُتيح الراوى العليم بالرواية فرصة لإظهار الخطاب العنصرى الذى تبناه المسئولون فى غزوهم ليبيا عبر المقالات والخطابات التى تضمنها العمل الروائى ضمن نسيجه، فهناك ذلك الصحفى الذى يكتب عن عقل العربى الذى لا يستوعب أسس الحضارة والإنسانية، والعربى الطفل الذى ينبغى منحه الحلوى ثم جلده فى الوقت المناسب.

مرآة الأنا والآخر 

إن كانت للرواية أن تُدين شيئًا فى خطاب مباشر فإنه لن يكون سوى اللا إنسانية والقتل والدمار، ولكن بصورة غير مباشرة تُطرح تلك الأسئلة عن الإنسانية المزعومة التى ادّعى بعض الصحفيين الإيطاليين أن أمتهم تقود نحوها حين تُقارب بما يجرى من أعمال وحشية مثل تلك التى شهدتها جزيرة أوستيكا ومعاملة غير آدمية للأسرى والإلقاء بجثثهم فى مياه البحر، كما تُقارب الادعاءات الإمبريالية حول إعادة المجد وحماية الحضارة التى يُمكن ملاحظة تكرارها فى شتى المناسبات والخطابات بما يتحقق على أرض الواقع ويُثبت كذبها. 

تبنت الروائية الليبية خيارًا ذكيًا حين عمدت أولًا إلى عكس مآسى الذات وأوجاعها فى مرآة الآخر، هنا تتعرف الذات على نفسها فى وعيها بالآخر وعيًا مستجدًا وعميقًا، وثانيًا حين وضعت كلًا من الأنا والآخر أمام مرآة الإنسانية المتهشمة ليشاهدا حُطامهما الذى خلّفته الحروب والنزاعات.