«سجين مسقط» أن ترى العالم بداخلك
"تأملي في الحياة رسب بداخلي إحساسًا عامًا باللا جدوى من أي شيء".
هذه الكلمات الدالة ربما تلخص لنا الفكرة الجوهرية التي قامت عليها رواية "سجين مسقط" للصحفي والكاتب الشربيني عاشور الصادرة عن دار العربي للنشر والتوزيع.
فدائمًا ما يكون هناك درجة ما من درجات الحكمة يمكن للإنسان أن يصل اليها بعد عمر طويل، خاض فيه الكثير من الأسفار، وشاهد فيه المواقف والأحداث، التي ربما شكلت رؤيته الخاصة جدًا للعالم وكل ما يجري من حوله.
هذا وفي حقيقة الأمر هو تعريف آخر لعملية الخلق والإبداع، الذي هو في جوهره انفعال نابع من قلب إنسان، منطلقًا في صورة ما إلى العالم أجمع.
هذه الرؤية شديدة الخصوصية هو ما قدمها الكاتب في روايته، هي رؤية في الأساس لا تساءل حياة وقصة البطل وحده، بوصفه إنسان فقط، بل ترمي بظلالها على علاقة البطل بالمفاهيم التي تضرب بجذورها في عمق الإنسان، مثل مفهوم الاغتراب، ففي الرواية كانت كل أفعال البطل وحتى سرده للحوار نابعة من صميم مساءلة هذا المفهوم، نرى المفهوم حاضر وبقوة في صميم السردية، تجاوز صوت صاحبه ليصبح صوت كل إنسان يتحدث عن نفسه وعن تجاربه، وعن قصته الحقيقية. إنسان قرر أن يقوم بفعل التعرية الناتج عن تأمل الفرد الذي يكشف عن سوءته وسوءة العالم معه.
بطل الرواية الذي سيتوحد معه القارئ ويشاركه أزماته طوال النص، باحثًا معه عن ملاذ آمن وسط عالم هو فيه أشبه بالغريب، شعور الغربة يكاد يفترسه داخل وطنه أكثر منه في خارجه، من الصوت المغترب هذا نبدأ في رؤية ما تتفجر به السردية من أسئلة أخرى شديدة العمق، كاشفة لحجم التحولات التي طرأت على الشخصية وعلى الإنسان مع سقوط المفاهيم الكبيرة، وتبدل الأحوال. فبطل الرواية ما هو إلا انعكاس لصورة الإنسان في عالم يتغير بسرعة هائلة، سقطت فيه كل المصطلحات الكبيرة، ويعيش حالة من حالات الفوضى الأخلاقية.. في الرواية كل سؤال يقودنا إلى سؤال آخر ومصطلح أكبر، فبعد طرح سؤال الغربة نذهب مباشرة لسؤال المنفى فنرى البطل الذي يعاني حالة أشبه بحالات النفي يصيبه شيء من اللامبالاة تجاه الأشياء، فينظر لكل ما حوله باستهانة، حتى ان تجربته الشخصية نراه يرويها كانها تجربة إنسان آخر غيره.
نرى أيضًا أننا إذا عدنا لما قاله الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، في كتابه "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق":
"شيئانِ يَملآنِ الوِجدانَ بإعجابٍ وإجلالٍ يَتجدَّدانِ ويَزدادانِ على الدوامِ كلما أَمعنَ الفِكرُ التأمُّلَ فيهما: السماءُ ذاتُ النجومِ من فَوقي، والقانونُ الأخلاقيُّ في صدري".
نرى ما أشبه تلك الكلمات وقدرتها على التعبير عن رحلة البطل، فهو رجل يحمل القانون الأخلاقي للإنسانية بين ضلوعه حتى أنه وبينما هو يروي قصته لا يفارقه روح التأمل في كل شيء محيط به بداية من المدن والبلدان التي يهبط عليها وصولًا إلى السماء وعلاقته باللا نهائي.
هكذا داخل الرواية كل حدث يقودنا إلى حدثًا آخر، وكل علامة استفهام تقودنا إلى علامة استفهام أخرى، الأسئلة داخل الرواية تتفجر من تجربة مروية بصدق، ومحاولات الإجابة عليها كذلك تبقى محاولات إنسانية بحتة، من عتبة النص حيث العنوان "سجين مسقط" حيث سؤال السجن الذي سنعرف داخل الرواية أن السجن في المفهوم العام هو ليس فقط القضبان الحديدية التي يحتجز الإنسان خلفها، بل يمكن أن يكون السجن هو نفس الإنسان أو بيته، أو رؤيته للعالم ككل. من هذا السؤال الأولي وحتى سؤال الموت الذي يراه البطل كامنًا في كل شيء، والذي لا يمنعه مانع من الوصول لهدفه". يدل على ما قامت عليه هذه السردية من رحلة للتأمل والنظر على الإنسان وهمومه وأسئلته من بعيد.