حديث الرئيس فى الإمارات.. والإعجاز المصرى الذى لا يراه بعض المصريين!
حديث الرئيس السيسى عن الشأن المصرى فى القمة العالمية للحكومات بالإمارات هو مما يندرج تحت عنوان "الحديث الوثائقى التأريخى والتاريخى". فهو حديثٌ من رأس السلطة فى مصر عن بعض ما حدث فى السنوات الأحرج فى تاريخ مصر المعاصر مما لم يكن متاحًا معلوماتيًا وقت حدوثه.
فقد أعلن الرئيس رقم ما تكبدته مصر من خسائر اقتصادية لأحداث يناير وما تلاها وهو 450 مليار دولار! وقدم أرقامًا لما تكلفه بعض القطاعات المتهالكة مثل النقل، وأعلن الأرقام الحقيقية الدقيقة لأعداد الطلاب، 25 مليون تلميذ بالتعليم الأساسى و4 ملايين طالب جامعى و700ألف خريج كل عام! زاد عدد سكان مصر فى عشر سنوات من 80 مليون إلى 105ملايين!
أرقامٌ مرعبة، يكفى رقمٌ واحد منها للإطاحة بدول وحكومات وإجهاض محاولات التنمية لعقود! حوالى 30 مليون تلميذ وطالب، أغلبهم تحت مظلة التعليم المجانى! رقم يعادل عدد سكان عدة دول من دول العالم! التاريخ وحده سوف ينصف هذا الجيل من قادة هذه البلاد، وسوف يذكر لهم هذا الإعجاز الذى ينكره كثيرٌ من المصريين اليوم! الإعجاز أن تقرر قيادة دولة على حافة الهاوية- وفى ذروة خوضها حربا عسكرية حقيقية- فتح ملفاتٍ نعلم جميعًا أنها تراكمات عقود، ثم أن تنجح تلك القيادة فى عبور مرحلة الخطر العسكرى والاقتصادى!
(2)
أزمة كثيرٍ من المصريين تتلخص فى كيفية رؤيتهم مصر بصفة عامة، ولما مرت به منذ عام 2011م بصفة خاصة. أزمتهم أنهم يرون مصر من خرم إبرة، من مشهدٍ عابر هنا أو هناك، أو شائعة، أو موقف شخصى، أو قائمة أسعار! كما أنهم يرفضون النظر فى مرآة الحقيقة! لا يقتنعون بجملة حقائق كبرى! يريدون أن تظل شوارع أو أحياء على حالها حين كان تعداد العاصمة عدة ملايين، بينما كان تعداد سكان مصر ثلاثين مليونا!
بعض زملاء المهنة يرون أن مصر ترجع للخلف؛ لأن إجراءً روتينيًا يعوقهم أحيانا فى بعض مناطق عملهم، بينما لا يرون أن هذا العام هو الأقوى لقطاع السياحة، منذ ما قبل عام 2011م، وأن مجمل ما قدمه هذا القطاع لمصر فى هذا الموسم حوالى 14 مليار دولار! فى القطاع الطبى يتحدثون عن "هجرة الأطباء إلى إنجلترا" بسبب سوء أوضاعهم فى مصر، بينما يغفلون أنه فى مصر وليس إنجلترا تعلم هؤلاء الأطباء مجانًا، وأن مصر ليست الأولى فى قائمة الدول المصدرة للأطباء لإنجلترا. فمصر رقم 3 فى المنطقة، وبمقارنة عدد الأطباء المصريين المسافرين إلى عدد سكان مصر أو عدد خريجيها من كليات الطب يصبح رقمًا طبيعيًا، خاصة إذا ما درسنا طريقة رؤية الشباب المصرى لفكرة الهجرة إلى أوروبا!
يتحدثون عن غلاء الأسعار ويتجاهلون أن مصر- حتى الآن- هى من أرخص سبع دول على مستوى العالم فى سعر الوقود العالمى، وتسبقها وتفوقها فى السعر عشرات الدول التى يقل دخل مواطنيها عن دخل المصريين!
يرون مصر من فاتورة مخالفات مرورية يرون أنها مجحفة، ولا يرون ما تحقق فى طريق رقمنة الخدمات فى عموم مصر!
مصر دولة كبرى تاريخًا وحاضرًا وشعبًا وزخمًا وأعباءً وطمعًا فى مقدراتها! هكذا يراها العالم، بينما يراها كثيرٌ من أبنائها من نافذة شخصية ضيقة!
(3)
قال الرئيس فى معرض حديثه عن التجربة التنموية المصرية عبارات فى منتهى الخطورة تكشف قدرا كبيرا من أزمة مصر مع مواطنيها. عبارات عن تفرد كل دولة فى مفرداتها الاقتصادية والاجتماعية. فى مقال سابق تحدثتُ عن ذلك فيما يخص نظرة المصريين لنُظم الحكم التى تعاقبت على مصر ومقارنتها بنظم الحكم الغربية، وأوضحتُ خطأ هذه المقارنة تفصيلا. وهنا أسترجع عبارات الرئيس للحديث عما يصر كثيرٌ من المصريين على تجاهله فيما يخص أحوال مصر الاقتصادية. فهم يعلقون الجرس فى رقبة الإدارة رغم أن موقف مصر الاقتصادى الحالى مستقر تماما وبشهادة المحافل والمؤسسات الاقتصادية الدولية المتخصصة، وبما نراه من تدفق – بل وأحيانا صراع بعض الكيانات الاقتصادية المحلية والدولية-على الاستثمار فى مصر. وحين نضع هذا الوضع الاقتصادى فى موضعه الصحيح بجوار ما تعرضت له مصر سياسيا فى العقد الأخير، ونقارنه باقتصاديات الدول الأخرى التى كانت مستقرة سياسيا، يصبح هذا الوضع إعجازًا حقيقيًا!
لكننى سأجنح بالخيال قليلا، وأتخيل وضعها الاقتصادى لو اختلف المصريون قليلًا فكريًا! ماذا لو لم يقفز عدد السكان هذه القفزة المرعبة؟! ماذا لو أن المصريين بعد أشهر من 2011م لم يصوتوا لصالح الإرهاب المسلح لحكم مصر! ماذا لو لم تخض مصر تلك الحرب العسكرية فى سيناء بناءً على حجة انتخاب الجماعة الإرهابية بأصوات المصريين؟!
ماذا لو لم يكن الاقتصاد الموازى- خارج السجلات الحكومية- فى مصر بهذه النسبة المرعبة التى تقترب من خمسين بالمائة؟! ماذا لو كان كل المصريين لا يتعاملون بالرشوة فى كثيرٍ من تعاملاتهم اليومية ويعتبرونها من طبائع الأمور؟! ماذا لو كان كل رجال الأعمال فى مصر لا يتحايلون على القوانين للتهرب من التزاماتهم المالية؟!
إن الإعجاز الأهم أن تعبر إدارة الرئيس السيسى بمصر هذه السنوات الحرجة بكل تلك الإنجازات وسط كل تلك المفردات المرعبة!
(4)
لا يريد كثيرون من المصريين أن يدفعوا أى ثمن لتغيير مصر! يريدون أن يكون ثمن التغيير بعيدا عنهم، لكنهم سيقفون فى أول صفوف المنتفعين منه وقت حدوثه! اعتدنا على التهرب الضريبى، وفى نفس الوقت نتغنى عن الفساد المستشرى فى البلاد، فلما بدأت الدولة فى اتخاذ إجراءات حقيقية لضبط منظومة الضرائب ضججنا بالشكوى وسرنا فى ركاب كل مشكك! كل مصرى يريد إقامة الدولة بمعناها الحقيقى تماما بشرط أن تستثنيه هو من ضوابطها والتزاماتها! هذه حقيقة وجزء كبير من أزمة مصر!
نعم هناك طريقٌ طويل لابد أن تسير على دربه كل أمة تحلم بالتغيير. نعم هذه فترة انتقالية فى تاريخ مصر، ومصر الآن على بداية مفترق طرق، وعلى المصريين أن يختاروا أى طريقٍ سوف يسيرون فيه. وإعجاز هذا الرجل أنه استطاع أن يعبر بمصر إلى هذه النقطة. نقطة انطلاق، أو نكوص. الآن مصر على قيد الحياة بشكل حقيقى بعد أن تم انتشالها من ثلاجة مبارك وتخليصها من براثن ومخالب الإرهاب المسلح الدموى، وبعد أن استطاعت مصر تحت قيادة الهذا الرجل أن تنتفض وتضخ الدماء فى شرايينها المتباعدة والتى ظننا من طول صمتها أنها فارقت الحياة!
استطاع هذا الرجل إزالة الخطوط الحمراء التى فُرضت على مصر زمنا طويلا، فمد يد مصر لتحيل صحاريها إلى مزارع قمح، وهو شأنٌ- لو يعلم المصريون- عظيمٌ بالغ الجرأة لا تقبل عليه سوى قيادة قوية! ففى وقتٍ ما جبنت الدولة المصرية على كسر هذا التابو وأتلفت بيدها الرسمية بعضا من مزاع قمحها!
طبقا لتقديرات منظمات اقتصادية دولية رسمية، هناك عشرات الملايين حول العالم مهددون بمواجهة الجوع والبطالة بسبب أزمة الطاقة..ومصر وفقط بعد عدة سنوات من لحظة ترنحها مازالت شوارعها تضاءُ ليلا حتى الصباح!
الآن مصر تقف واثقة على قدميها قوية وعفية وقادرة.. أمامها طريقان لا ثالث لهما..أن تنتقل من مرحلة الحياة المجردة إلى مرحلة البناء الحضارى والنهضة والسير فى طريق الحداثة والبناء، أو أن تنكص على أعقابها وتكتفى بالوصول إلى تلك النقطة ثم تبدأ فى التململ والتكاسل والحنين إلى برودة الماضى!
كل الظروف مهيأة للمصريين الآن للانطلاق الحقيقى.. مصر الآن تنتفض حيويا وفى حاجة إلى عقول وسواعد فتية تنظر إلى الأمام وترى مقعدها بعد عقد أو عقود، ولا تسمح لمن يريد أن يثبط عزائمها أو يشككها فيما حققته وأنجزته!
وإننى- ورغم كل شىء- أراهن أن مصر سوف تركض فى طريق النور.. لقد أهدرنا- نحن المصريين حكاما ومحكومين- فرصة شبيهة بتلك الفرصة بعد نصر أكتوبر، ولا أعتقد أن مصر سوف تقع فى نفس الفخ والخطأ وتلدغ من نفس الجحر مرتين! فمصر مؤمنة!