«ألوان التجريب.. ألوان الجيل».. عن «سنوات الجرى فى المكان»
ما بين الهروب من الدوجماتية الأدبية، والكلاسيكية السردية تقطن رواية «سنوات الجرى فى المكان»، للكاتبة نورا ناجى، الصادرة حديثًا عن دار الشروق، فى محاولة للبحث عن التجريب فى ثنايا الإنسان والجيل..
وكأن كل شىء فى هذا النص هو الإنسان، بداية من الألوان، التى تعبر عن حيواته.. مأساته وآهاته، القابعة بنفسه، والنابعة من جيل يغرق فيه الفنانون فى الثورة والعشق والمأساة والحيرة والحب والقهر والفقر، لتخرج الكاتبة المصرية نورا ناجى من نقطة الجيل الضيقة لسماء الإنسان الرحبة، عن طريق الفن، الذى يربض فى عنوانه الفن، كمادة أساسية للبناء، وكنموذج أساسى لطرح السيمائية داخل النص..
كل شىء فى رواية نورا ناجى هو الإنسان، الذى يخلق الثنائيات الفنية، النابعة من جيل يتأمل هزيمته، ويصرخ بالفن، عله يطير، رغم فقدان عينه؛ لإصابته بطلقة نارية داخل ثورة لم تهمد بعد.. ثنائية الإنسان/السلطة، الإنسان/الموت، الإنسان/الماضى، الإنسان/المأساة، الإنسان/النشأة، الإنسان وموقعه من الجيل، والإنسان/الحيرة، الإنسان/الخوف، الإنسان/الحب، الإنسان/الوحدة، وغيرهم.
كل الثنائيات الفلسفية الجزء الأول منها الإنسان؛ لأنها خارجة من مأساة الجيل والفقد، فثنائية الإنسان/الفقد هى بداية النص، من لحظة فقدان «سعد» لأبيه ومن ثم فقدانه لعينه وأخيرًا لحياته، انطلاقًا لفقدان أصدقائه له، والتعمق فى حيواتهم، عن طريق التجريب فى ما يحمله النص الروائى من أجناس أدبية.
الثنائيات كلها تخرج من كنف الألوان، بداية من فصول سعد البيومى، الفنان الذى مات أبوه؛ بسبب أناس سلطتهم أكبر من قلوبهم، وهؤلاء الناس هم الذين اعتقلوا بعد مرور السنوات؛ لأنه أنشأ معرضًا يظهر أنه يعارض سياسة ما، ويحرض الناس على الثورة، وأخيرًا، يلقى كمصاب بطلقة نارية أثناء ثورة ٢٥ يناير.. ثورة الشعب، ورمز الجيل، ورمز كل شىء تتجمع حوله الألوان ورموزها الفلسفية والسياسية والاجتماعية..
سعد البيومى الذى يعيش ككادح، لم يقدر على دخول كلية الفنون الجميلة؛ لضعف الإمكانات، والفقر.
النظرة الفلسفية الكائنة فى النص الروائى هذا تخلق حالة من متابعة معنى الرمز والفلسفة، ولا تتركه إلا بالتأكيد على كل مشاعره وجوانبه، فالموت، مثلًا، وهو السؤال الأهم فى الرواية؛ لأنه السؤال الأهم للإنسان والمعنى المفقود، والأهم فى حياته، يطرح من أكثر من زاوية، بدايتها الخوف منه، وثانيها انتظاره، وطرح معضلة الخوف، وآخرها العيش فيه، كشخص لا يقدر على الحركة، ويعيش فى جمود، ككل عناصر الحياة، وكل شخصياتها، وشخوص النص..
هذا النص يطرح الصدمة النفسية كسؤال فلسفى، وواقع جيل، وواقع إنسان، وينطلق منه لأسئلة الإنسان والجيل والوطن، عن طريق حالة الجمود، التى تسيطر على الرؤية الفلسفية للرواية، وتهرب منها التقنيات الفنية لها.
«سرقة الحيوات»
تتنوع الأصوات السردية وتقنياتها فى هذه الرواية، وتسرد الكاتبة نورا ناجى أجزاءً كبيرة من فصول روايتها الأحدث «سنوات الجرى فى المكان» من منظور الشخص الأول، فتسرق حيوات شخصياتها، وتتقمص شخوصهم؛ لتعبر عن مأساة الإنسان، وأحزان جيلها وبلادها، وتنطلق من نقطة شخوصهم بلغتها، التى تتأثر ببناء شخصياتها وأبعادها التاريخية والنفسية، إلى كل ما يشعر به الإنسان، بداية من الألوان، التى تنطلق فى فصول الرسام، الفنان، والتى تنعكس شخصيته فى لغته الصافية، الحزينة.
السرد السينمائى، أحيانًا، فى هذه النصوص يعكس المشهد متكاملًا، بمشاعره ورموزه، النابعة من كل تفصيلة، والخارجة من السيمائية، وكأنها عكس للحياة منذ بداية الخليقة، والتمسك بالثبات، كسؤال فلسفى ووصف للمشاعر والواقع، وطرحه كتقنية أدبية تخلق نوعًا من التجديد والتجريب؛ حيث تطرح فكرة الثبات فى كل شخصية أجناس أدبية تخرج منها، لخلق لوحة فنية تقطن فى ثناياها أجناسًا أدبية مغلفة بلغة نقية، شفافة، تعكس ما تريد، كالأزرق..
رواية «سنوات الجرى فى المكان» هى رواية مكتوبة بلغة زرقاء..
السرد، أيضًا، فى فصول «ياسمين»، «كل القطط الميتة»، يعكس التجريب؛ فالراوى غير الموثوق، السارد من منظور الشخص الأول هو بطلة هذه النصوص ياسمين، هى التى تكتب من نظرتها، التى خافت من الموت لفترة وانتظرته لفترة، وتتحدث من منبر مشاعرها وآلامها.. عشقها وأهاتها وجراحها ومن واقع وجودها بمصحة تخرج منها لتجد العالم تغير؛ لأنه أصبح تحت وطأة وباء..
كل شخصية تسرد من عينها، حتى لو سردت من منظور الراوى العليم، مثل فصول مصطفى عبدالعزيز «الانتباه من الصوت»؛ فالسرد فى هذا النص يمثل الحواس، ويبعث على خلق الرمز، الذى يمثل كل شىء ومحور النص.
الحواس التى تخلفها الشخصيات، ويسجلها السرد، ويستخدمها الرمز؛ لطرح النظرة الفلسفية، والاجتماعية والسياسية، عن طريق المشاعر، التى هى العنصر الأهم، الذى يبنى اللغة، ويأخذها إلى الحواس، سواء النظر فى فصول سعد البيومى أو التذوق فى فصول ياسمين أو الشم فى فصول يحيى أو السمع فى فصول مصطفى عبدالعزيز، المسرودة بنظرة الراوى العليم، التى تطرح التجديد الأدبى، والمعنى الحقيقى لسرد النص، وهو البحث عن التعبير عن الشخصيات.. الشخصيات التى تبنى رمزًا لكل المعانى والحواس والمشاعر.
وكذلك السرد المسرحى، الذى يعكس التجريب، ويطرح طريقة جديدة لسرد حكاية شخصية محورية، وتحولاتها، وعلاقتها الإنسانية بباقى الشخصيات، وعلاقتها الفنية والأدبية بباقى فصول الرواية.
والتجريب عن طريق كتابة أجناس أدبية مختلفة، بتقنيات سردية مختلفة، آخذها الراوى المخاطب للبطل، وكتابة مخطوط نص روائى، هو الرواية نفسها، والذى يؤكد على أهم عنصر فى البناء وهو الفن، فى فصول نانا عبدالوهاب، ذات عنوان «كمثل تمثال فى شرفة»، والتى تؤكد على البنية الفلسفية للنص، وتطرح كل الناقص من الأحداث فى الفصول السابقة، وتطرح العلاقات الإنسانية بين الأشخاص بنظرة تربض بين الأحادية؛ حيث إن «نانا» هى كاتبة النص، وبين النظرة العليا لراوى عليم يخاطب البطلة «نانا». نانا التى بدأت حكايتها بحب مصطفى والتمرد على المجتمع معه، وأخيرًا الشعور بالخذلان منه ومن يحيى، وسماحهم..
سماحهم بعد حالة الجمود، التى احتلت أبطال النص، وأفراد الجيل، والإنسان، بعد موت سعد..
الجمود الذى هو السؤال الأعظم فى النص، والذى يتساءل عن كنه الموت والإنسان والواقع..
«مسرح التشابك»
العلاقات الإنسانية فى النص الروائى الأحدث للكاتبة المصرية نورا ناجى تمثل المولد الأول لجوانب الشخصيات، والأحداث المتعلقة بهم، وحتى فلسفتهم..
العلاقات بين الشخصيات (الفنانين) وبعضهم تخلق حالة من التشابك بين فصول العمل؛ فتنتج حالة من ترابط التجريب الأدبى، الممثل فى كتابة أصناف أدبية مختلفة، مثل: المسرح والشعر، وحتى مخطوط لنص روائى داخل النص الروائى.. النص كله عنوانه الفن، ودلالته الإنسان، لذلك فإن العلاقة الإنسانية وعلاقة الأجناس الأدبية تخلقان حالة فنية متفردة.. حالة تبنى عالم الجيل والإنسان والآلام والوطن والأسئلة الفلسفية..