مئوية دستور 1923
تحل علينا هذا العام ذكرى مهمة فى التاريخ المصرى الحديث، وهى مئوية دستور ١٩٢٣، وتمثل هذه الذكرى نقطة مهمة ومفصلية فى كفاح الشعب المصرى من أجل تأسيس دولة مدنية حديثة.
وفى الحقيقة بدأت قصة الدستور فى مصر بفضل كتابات المفكر الرائد رفاعة الطهطاوى؛ إذ كان الدستور من الأمور السياسية الحديثة التى استلفتت انتباه الطهطاوى أثناء دراسته فى باريس. وعندما عاد إلى مصر وكتب رحلته الشهيرة «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز»، عمد إلى الحديث عن الدستور الفرنسى، بل وقام بترجمته إلى العربية، فى إطار مشروعه الكبير للنهضة المصرية.
ومع بدء الحياة النيابية فى مصر فى فترة مبكرة نسبيًا فى عام ١٨٦٦، بدأت فكرة حاجة مصر إلى الدستور تختمر فى وعى المصريين. من هنا لم يكن غريبًا أن يصبح حلم الدستور مطلبًا وطنيًا شعبيًا. وفى خضم أحداث الثورة العرابية تبدأ محاولات تحقيق الحلم وتحويله إلى حقيقة، وبالفعل يتم إعداد مشروع دستور، هذا المشروع الذى عُرِف باللائحة أو دستور الثورة العرابية، لكن الرياح أتت بما لا تشتهى السفن؛ إذ تعثرت الثورة العرابية، وتم احتلال مصر على يد بريطانيا فى عام ١٨٨٢. والمثير أن بريطانيا «بلد الديمقراطية» ستكون فى مصر «دولة استعمارية» تعصف بالديمقراطية، وتوقف الحياة النيابية، وبالتالى يتم وأد هذا المشروع الوليد «دستور الثورة العرابية».
ومع تصاعد الحركة الوطنية فى مصر فى مطلع القرن العشرين، يعود من جديد الحلم القديم، حلم إعداد دستور مصرى. وبالفعل أصبح حلم الدستور مطلبًا شعبيًا تلتهب من أجله حناجر طلاب المدارس العليا فى مظاهراتهم، ويكون شعارهم «الدستور يا أفندينا»، فى محاولة منهم لإجبار الخديو على الموافقة على الدستور، لكن يقف الخديو، وأيضًا بريطانيا، من جديد ضد تحقيق هذا المطلب الشعبى.
ومع نجاح ثورة ١٩١٩، وإعلان قيام المملكة المصرية فى عام ١٩٢٢، عاد من جديد حلم الدستور. وبالفعل يتم إعداد لجنة تضم ممثلين عن معظم فئات الشعب المصرى، وحتى ممثلى الديانات المختلفة، لإعداد الدستور، ليخرج علينا بالفعل دستور عام ١٩٢٣، هذا الدستور الذى كان لا يقل فى مستواه ومواده عن أى دستور أوروبى، ويكفى أن إحدى المواد الأساسية فيه كانت تنص على أن «حرية العقيدة مطلقة».
وبالقطع لم يرضَ الملك فؤاد ولا السفير البريطانى بهذا الدستور الذى أتى بالحكومة الشعبية، حكومة سعد زغلول فى عام ١٩٢٤، وحكومة الوفد، حكومة النحاس بعد ذلك، وعليه يقوم الملك بإلغاء دستور ١٩٢٣، ويتم إعداد دستور جديد، عُرِف بدستور صدقى، نسبةً إلى إسماعيل صدقى، رئيس الوزراء آنذاك، أو دستور ١٩٣٠. والحق أن هذه الخطوة كانت انتكاسة كبرى على طريق الديمقراطية المصرية، وستشهد سنوات مطلع الثلاثينيات ذروة كفاح المصريين من أجل عودة دستور ٢٣، وسيسقط فى سبيل ذلك العديد من الضحايا، وستشهد مصر انتفاضة كبرى فى عام ١٩٣٥، رأى فيها البعض أنها ثورة جديدة، حتى عاد دستور ١٩٢٣ من جديد. وسينعكس ذلك الكفاح فى العديد من الأعمال الأدبية التى تحولت إلى أفلام سينمائية مثل: القاهرة الجديدة «القاهرة ٣٠»، الشوارع الخلفية، وحتى فيلم الأرض.
والجدير بالذكر أنه حتى بعد قيام ثورة ٢ يوليو ١٩٥٢، وتعليق العمل بدستور ٢٣، كانت هناك فكرة مطروحة بعودة العمل بدستور ٢٣ مع إجراء بعض التعديلات، ولكن جرت الأمور إلى إلغاء دستور ١٩٢٣، وإعداد دستور جديد، هو مشروع دستور ١٩٥٤، الذى للأسف لم يتم العمل به، ليخرج فى النهاية دستور عام ١٩٥٦.