رسالة معرض الكتاب
لم يتوقع أحد نجاح معرض الكتاب هذا العام، بسبب الظرف الاقتصادى الخانق، وبسبب ارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة الأخرى، ولكن كرامات المصريين دائمًا تتجلى فى اللحظات الحالكة، يتدافع الجمهور يوميًا فى اتجاه المعرض، ويتابع الأنشطة والأمسيات، ويخرج محملًا بالكتب، كأن اتفاقًا أُبرم بين الناس لكى تظل القاهرة عاصمة للنشر والثقافة فى المنطقة.
نجاح المعرض هذا العام بعث برسالة طمأنينة على سلامة الوجدان العام والإحساس بالمسئولية، بالطبع لن يتمكن القارئ المحترف من شراء كل ما يريد، ولكن مجرد الذهاب والمشاركة وتحمل مشقة الانتقال من كافة الأقاليم يعنى الكثير، الأزمة العالمية تتحمل الجزء الأكبر من الأزمة لا شك فى ذلك، ولكن المعوقات الداخلية يجب أن تسعى الدولة إلى حلها، عليها أن تدعم صناعة النشر فى مصر التى تستحوذ على أكثر من ٣٥٪ منه عربيًا، ولأنها الصناعة الأعرق، التى توفر العملة الصعبة وتؤكد ريادة مصر ثقافيًا، بعض الدول الشقيقة بدأت تهتم بالموضوع، وبفضل إمكاناتها المادية تحاول أن تخطف من القاهرة ما صنعته الأجيال المتعاقبة على مدى قرنين من الزمان، رغم مناخ عدم التفاؤل الذى سبق الافتتاح، سعدت جدًا وأنا أتحدث مع أصدقائى من الناشرين العرب وبعض الناشرين المصريين، الذين أكدوا لى أن الأمور جيدة، وأنهم لم يتوقعوا هذه الحالة فى هذه الظروف، مصر تستهلك حسب المعلومات الرسمية ما يقرب من ٥٠٠ ألف طن من الورق سنويًا، نستورد منها ٣٠٠ ألف طن، وننتج الباقى محليًا عن طريق شركتى قنا وإدفو المملوكتين للدولة، ولا أعرف لماذا لا نشجع الاستثمار فى صناعة الورق، خصوصًا فى المناطق التى تتوفر فيها مستلزمات الصناعة مثل كفرالشيخ والبحيرة والدقهلية، للاستفادة من قش الأرز المهمل الذى يتحول إلى عبء على الفلاحين، أو فى مناطق زراعة القصب فى الصعيد، لأن ذلك سيوفر على الدولة الكثير من العملة الصعبة، وسيوفر أيضًا فرص عمل يحتاجها الشباب، منذ جائحة كورونا وإنتاج الكتاب يتناقص، ثم جاءت العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا لتعقد الأمور أكثر، ولم ينجح النشر الإلكترونى حتى الآن، لأن الكتاب الورقى له سحره، والناشرون قللوا كمية المطبوع ورفعوا سعر الكتاب ولا يوجد لوم عليهم، ولحسن الحظ تنتج الدولة كتبًا جيدة فى بعض مؤسسات وزارة الثقافة مثل الهيئة العامة للكتاب وهيئة قصور الثقافة والمشروع القومى للترجمة، وأود أن أشير إلى الجهد الرائع الذى يقوم به الشاعر جرجس شكرى فى قطاع النشر بهيئة قصور الثقافة، لأنك تستطيع أن تكون مكتبة عظيمة لألمع نجوم الثقافة والفكر والأدب والتاريخ والفلسفة والترجمة على مدار قرن كامل بأسعار معقولة، والقطاع الخاص يحتاج إلى دعم الدولة لكى تزدهر صناعة الكتاب، ولماذا لا تنشئ صندوقًا لدعم هذه الصناعة على غرار دعم الصادرات؟ وتسهل من إجراءات تأسيس دور نشر جديدة، وتخاطب المؤسسات القومية لكى تقلل نسب التوزيع، فهل يعقل أن يأخذ الموزع نسبة ٤٠٪ من قيمة الكتاب؟، وهى نسبة يتحملها المواطن الذى يقرأ، هذا المواطن هو الذى نعمل جميعًا لإرضائه، لأننا ننشده مثقفًا، والثقافة بمفهومها الواسع تحاصر المتطرفين وتعزلهم عن المجتمع، الرسالة التى بعث بها هذا القارئ فى معرض الكتاب يجب أن تُقرأ جيدًا، هو مأزوم ماديًا، ومستعد أن يشترى كتبًا بالتقسيط من خلال البنوك الوطنية، فقط لكى يقرأ فى الأدب والتاريخ والفلسفة والدين، ومستعد لدعم أى ناشر يحترم عقليته، واهتمام الدولة بصناعة النشر ضرورى جدًا هذه الأيام، حتى لو كلفها ماديًا، لأننا فى حاجة إلى أن تظل القاهرة عاصمة للكتاب العربى، لأن معظم منتجى الثقافة العربية من مصر، ولا نقلل من شأن الآخرين، ونتمنى أن تزدهر الثقافة فى كل المنطقة العربية، ولكن أتمنى ألا تؤثر الضائقة المالية التى نمر بها على نصاعة ونقاء وريادة القاهرة، لقد شاركت فى أكثر من اجتماع مع اللجنة التى خططت لمعرض هذا العام ضمن كوكبة من الكتّاب والمفكرين، مع رئيس الهيئة السابق الدكتور هيثم الحاج على، ثم من الرئيس الجديد الدكتور أحمد بهى، وأشهد أن الجميع كان عند حسن الظن، ولمست رغبة حقيقة لإنجاح المعرض هذا العام، ولكن توافد المواطنين هذا العام فاق كل التوقعات.