الناقد هشام زغلول: النقد الثقافي يواجه تحديّات مركبّة في المدونة العربيّة
قال الناقد والأكاديمي هشام زغلول في ورقته البحثية التي حملت عنوان "المشهد النقدي وتحديات الناقد الثقافي" إنه على مدى زهاء ربع قرن مضى من الزمان والساحة النقدية العربية مشغولة بالنقد الثقافي تنظيرًا وممارسة، ولم يكن تلقيها إياه واحدًا ولا موقفها منه مستقرًّا، بالقدر الكافي لأن يضفي عليه مشروعية منهجية، ويمنحه قُدرة على المضي قدمًا في أرض معبدة؛ بل كان تلقيه محفوفًا بالتحديات، ومسكونًا بالإشكاليات، وعرضة لكثير من المزالق؛ إن في تنظيره أو تطبيقه أو مراجعته.
وأضاف، في كلمته بالندوة التي عُقدت بعنوان "الدرس النقدي الجديد" في معرض الكتاب، قائلًا: أذكر أنني في الندوة الافتتاحية لمركز الدراسات الثقافية -التي عُقدت بالمجلس الأعلى للثقافة في سبتمبر 2016م- قدمت بحثًا بعنوان: "تحديات الناقد الثقافي"، مشتبكًا فيه مع كتاب عمدة لأستاذي الرائد جابر عصفور، هو "تحديات الناقد المعاصر" 2014م؛ قناعة مني بأن ذلك الناقد المعاصر – إن كان معاصرًا حقًّا- هو بالضرورة ناقد ثقافي، وإن بدرجة ما. لكن الحقيق بالتأمل، هو أن ما رصدتُه، من تحديات الناقد الثقافي، في تلك الدراسة التي مضى عليها ما يربو على ستة أعوام، لم يتلاش بقدر ما تضاعفت تشعباته وتكلست على نحو مفزع، فلم تزدها تلك الأعوام الستة إلا تعقيدًا والتباسًا.
عوائق تلقي شائكة
بيّن زغلول أن ثمة مفارقة جديرة بالتأمل حول كمّ الدراسات النظرية والقراءات الثقافية التي شهدتها المدونة النقدية العربية - أكاديمة وغير أكاديمية- والتي تتناسب طرديًّا مع تحدياته المركبة وعوائق تلقِّيه الشائكة. فلم تدْعُ هذه الإشكاليات ولا تلك المزالق كثيرين للتريُّث في تلقِّيه، والإمعان في تعمُّق فهمه، ولا حتى توخِّي الحذر في ممارسته، قبل الانجراف في تيار بعينه، وتحبير مقاربات منسوبة إليه، وهي مجافية لجوهره، أو غير واعية بخصوصيته، وربما أبعد ما تكون عنه. وتفاقمت حدة تلك الممارسات حتى صارت تشكِّل عبئًا على النصوص الأدبية التي تقاربها، ما أضرَّ بالمدونة النقدية والمدونة الأدبية على السواء.
واستطرد: يوقفنا تقصِّي المقاربات الثقافية العربية في علاقتها الشائكة بالمرجعية الغربية على جوهر كثير من تحديات النقد الثقافي في المدونة العربية، التي عكست تشويشًا في صيغته ومقولاته ومجمل منطلقاته التصورية. وهو ما تجلى بالتبعية في أدواته وإجراءاته ومستوياته القرائية؛ فتجنّى بعضها كثيرًا على النصوص الأدبية.
غياب المرجعية النظرية
وتابع: يمكنني عزو مجمل النتائج الإشكالية إلى غياب المرجعية النظرية عن كثير من تلك الدراسات؛ لأحادية لغة كثيرين ممن تصدروا لممارسته، ولشحوب ترجمة مصادر النقد الثقافي الأصيلة، والانشغال بترجمات واهية لا تخدم المقاربات الثقافية، بشكل مباشر، ولا تعين على تعمُّق فهمه وآليات تمثُّله في قراءة النصوص الأدبية تحديدًا. ما أفضى إلى تشويه مقولات المرجعية الغربية عبر الوسيط المنحاز أو الإقصائي. ثم اعتماد ذلك الوسيط الشائه نفسه مرجعية داخلية، والاكتفاء بها دون مراجعة فهمها الخاص وتصوراتها المغلوطة عن المرجعية الغربية. فضلًا عن تناسل المرجعيات العربية من بعضها، في متوالية من تزييف الأصل؛ يُنقَل فيها الشائه عن المحرَّف.
وأضاف: يتعين علينا مساءلة المقاربات الثقافية بشأن سلطة المرجع الغربي بين الحضور والغياب، ومقارنة المقاربات السطحية الزائفة بنظيرتها الجادة الواعية، التي دققت الفهم وأحسنت التمثل، لنرى كيف أن المرجعية الغربية قد تُراعَى في المداخل النظرية وتغيب تمامًا في الممارسة. بينما قد تغيب عن التأطير النظري لكنها تبقي حاضرة بقوة في متن القراءة؛ آخذة إجراءاتها ومقولاتها التأسيسية بأعصاب المقاربة ومفاصلها. كما يتعيَّن علينا مساءلة تيار القبحيات بشأن غياب جماليات الثقافة كما هي عند ستيفن جرينبلات، الذي تبنى مقولاته أيضًا؟ وكذلك عن غياب "الناقد المدني" الذي تبناه، والذي يتماسّ مع فحوى مقولات ليتش؟ بل أين ليتش نفسه الذي تم تقديمه بوصفه الأب الروحي لمشروع ذلك التيار، ولا علاقة له بأغلب ما نسب إليه منه؟ وما سبب افتقار الممارسة لجُلّ ما منّانا به التنظير؟ وما سبب النزوع الإقصائي في كثير من المقاربات صوب القبحيات وحدها؟
تحديد الإطار المرجعي
لفت زغلول إلى أهمية الوقوف على الطبيعة الجدلية التراتبية لهذه التحديات، بما يجعل بعضها يأخذ بحُجُز بعض. وأن يلحظ ثانيًا كيف أن ما تفضي إليه من مزالق وإشكاليات منهجية، عادة ما تتفاوت فجاجته وتبعاته السالبة بتفاوت نضج الإطار المرجعي للناقد من ناحية، وحساسيته إزاء النص موضوع الدراسة من ناحية ثانية، وطبيعة السياق الثقافي الذي يُنتَج/ يُتلقَّى فيه من ناحية ثالثة. وله أن يخلُص ثالثًا وأخيرًا إلى أن تلك التحديات في جوهرها ناجمة عن خصوصية النقد الثقافي وشموليته في آن.
ونوّه بأهمية أن يتسلح الناقد الثقافي بقدر أكبر من الضبط المنهجي الدقيق، والتحديد الصارم لإطاره المرجعي ومنطلقاته التصورية، وأن يكون على وعي تام بأدواته، وحدود ممارسته؛ حتى تعمل ماكينته النقدية بكل تروسها، ولا تُختَزل دائرة اهتمامه في حيز مبتسر من النصوص، أو تقف عند زوايا مسطحة منها. وكي لا يوقعه تشابك المرجعية النظرية في اضطراب منهجي، يُفضِي إلى خَلْط أو التباس أو تناقض، من حيث كان منوطًا به إثراء قراءته وتعميقها؛ بما يضيء المعتم النصي، وينفتح بنا على آفاق قرائية رحبة، مفعمة بالدلالة، لم تكن آهلة قبل بالنقاد، ولم يطأها بعد قلم.