تحرش الأطفال 2.. الفرق بين لوليتا الروسية والمصرية
لا يمكن أن نتحدث عن إشكالية تناول موضوع التحرش فى كتابات الأطفال، ولا نذكر الرواية الأشهر على الإطلاق فى هذا المجال وهى «لوليتا» للكاتب الروسى فلاديمير نابوكوف، الرواية التى رفضتها دور النشر فى الخمسينيات فى روسيا وأمريكا، رغم تناولها للتحرش بشكل أدبى مميز لا يتضمن أى إيحاءات جنسية أو مواربة لغوية، وبعد عامين من رفضها تبنت نشرها دار فرنسية عام 1955 لكنها عادت وصادرتها بعد النشر بعام لتدخل بعدها رواية «لوليتا» فى دوامات التناقض والانتقاد، فوقعت أسيرة بين مطلبين رئيسيين.. الهجوم على ظاهرة التحرش والقضاء عليها، مع ضرورة التستر على تلك الأمراض المجتمعية التى تفشت فجأة ولها تبعات وعواقب قد تؤثر على الهوية لهذا كان القرار محسومًا باتباع منهج التعتيم ومعالجة الأمر سرا،ولا مانع من تقديم الدعم النفسى لاضطراب ما بعد الصدمة فيما بعد وقوعها طبعًا.
وعلى إثره تم «دفس وهرس» أى اجتهاد أدبى يخرج فى هذا الشأن، باعتبار أن تجاهل الأمر وتهميشه قد يؤدى إلى انزوائه تدريجيًا لكن بعد فترة ليست بقليلة تضخمت بالونة التحرش والتوت أذرع الحكومات التى ظللته بالغمامات، وتسترت على حجمه وعواقبه، وأخيرًا اضطرت لتعديل منهجها بعد خراب مالطة، بعد أن تفشت الاضطرابات النفسية والعقلية وانهار الكيان الأسرى فى المجتمع بنسب هائلة، بدأت على إثرها فى نشر الوعى حول التحرش بكل الطرق والوسائل، وعندئذ تصدرت رواية «لوليتا» الساحة وتنفست من جديد، بل تحولت إلى فيلم وتمت ترجمتها إلى مختلف اللغات، وفتحت الأبواب بعد ذلك لاستقبال كل أنواع الكتابات فى شأن التحرش وبتناول أكثر من جرأة وكأنها كانت فى جرة وطلعت بره .. فخرج الأمر عن السيطرة تمامًا، وانتشرت ظواهر أخرى تفوق أضرارها أضرار التحرش، تخيل أن هذا كله يحدث منذ الخمسينيات وفى مجتمع غربى، فما بالك بمجتمعاتنا العربية؟ لماذا لا نتعظ مما وصل إليه الغرب من انهيار أخلاقى ونحذو حذو آخر أكثر حكمة ويتناسب مع معتقداتنا وأخلاقنا، ونتخلص من سذاجة الكتابة عن التحرش المختصرة فى «تعالى اجيبلك لوليتا».
دعونا نطلق العنان للمبدعين ونفتح مجالات الكتابة الحرة الأكثر وضوحًا، ولا أعنى بالوضوح.. الجرأة أو خدش الحياء، لكنى أقصد الكتابة الواقعية التى تحترم عقلية الطفل، كتابة تشبه ما فعله كاتب اللوليتا فلاديمير نابوكوف كأنه أسقط سكينة حادة فى قالب زبدة يجب أن تغير دور النشر من توجهاتها وسياستها، وأن تبتعد عن القوالب الجامدة التى لا تقترب قيد أنملة من الواقع المعاش والتى تفرض على الأديب حدود الفكرة، وتخصص له قاموسا لغويا واحدا لا يجب الخروج عنه، وترص له قائمة من الممنوعات التى تحجم إبداعه، فيخرج هشًا غامضًا، يحمل عددًا من علامات الاستفهام.. يحتاج إلى أم أو معلمة تفسر وتجيب عن أسئلة تقفز فى رأس الطفل، وقد لا تكون هذه الأم غير مؤهلة لذلك، فينفلت خيال الطفل بعيدًا عن ساحاتنا ويبحث عن إشباع فضوله بنفسه، وتبدأ من هنا الإشكالية فى تقديم محتوى يثير فضول الطفل نحو الجنس، بينما لا تمنحه الإجابات اللازمة للاستنارة حول الموضوع، نابوكوفا لم يتخيل قصته لوليتا، فهى حدثت بالفعل وتعد أول قضية غريبة من نوعها لطفلة أمسك بها عجوز وهى تسرق، فادعى أنه شرطى وأخذها للحبس فى بيته عامين تحت التهديد.. لكن كاتبنا لم يسرد القضية كما كانت، بل صنع منها واقعًا اجتماعيًا على لسان البطل همبرت الذى يعترف طوال القصة بأنه يحب المراهقات ويشرح كيف ينسج شباكه للإيقاع بهن، ويصوره شخصًا عاديًا ليس موضع شكوك، مما يوحى للطفل بشكل غير مباشر بضرورة الشك فى كل أنماط البشر عجوزًا كان أم شابًا طبيعيًا أو يبدو غريبًا فهمبرت يبدو طبيعيًا جدًا متزوجًا ومحترمًا، ولما قابل لوليتا وتزوج أمها لأجل البقاء بقربها اتضح له عن قرب أن هذه اللوليتا العنيدة المشاغبة المتمردة الجريئة التى تحاول الأم التخلص منها بكل الطرق لسوء أخلاقها.
كانت ضحية لمدرسها من قبله، لهذا تبدلت أخلاقها على ما عليه، وبهذا يظهر لنا بشكل غير مباشر أيضًا الأثر السلبى والأخلاقى الذى يتركه التحرش على الأطفال.
ولم يلتزم الكاتب بنهاية القوالب الجامدة التى تتبعها دور النشر العربية ويضطر لاختلاق موعظة تربوية أو نصيحة مباشرة أو تحذير، وليس مهما أيضًا أن يلجأ لنهاية مأساوية أو نهاية تتضمن الإصلاح.. كانت نهايته أكثر واقعية تحترم عقلية القارئ.. مُلقنًا إياه درسًا هامًا وهو.. طالما أنك تناولت الواقع لا بد أن تكمل بنفس مصداقية الواقع ووضوحه.