سن التقاعد!
سن التقاعد، أو سن المعاش كما نُطلق عليه فى مصر، من الأمور التى طُرِحَت على الساحتين العالمية والمحلية فى الآونة الأخيرة. وأدى هذا الأمر إلى سلسلة من تداعى الأفكار إلى ذهنى، لعل أولى هذه الملاحظات: المسمى الذى نطلقه على سن التقاعد فى مصر «المعاشات»، حتى إننا جعلنا هناك إدارة وقطاعًا كبيرًا فى الجهاز الحكومى يسمى «التأمينات والمعاشات». ويعتبر مصطلح «التقاعد» و«المتقاعدون» هو الأكثر تداولًا واستخدامًا فى الجهاز الإدارى فى معظم الدول العربية. ولا أدرى لماذا فضلت الأداة الحكومية فى مصر استخدام مصطلح «المعاش» و«سن المعاش»؟ فالراتب هو أيضًا معاش يعيش عليه الإنسان! وعادةً ما يُقال أيضًا «راتب التقاعد»، وفى الحقيقة نحتاج مداخلة من الأصدقاء المتخصصين فى اللغة العربية لبيان لماذا يستخدم فى مصر هذا المصطلح «المعاش» بدلًا من «التقاعد»؟.
الملاحظة الثانية التى وردت إلى ذهنى هى المصطلح الشهير الذى لا يستخدم أيضًا إلا فى مصر: «قهوة المعاشات»! والمقصود بالقطع هو المقهى الذى يفضله أرباب المعاشات لقضاء فترة الصباح؛ حيث يحتسى هؤلاء قهوة الصباح مع قراءة الجريدة. وكان من المعتاد أن يذهب أرباب المعاشات إلى هذا المقهى وهم فى كامل أناقتهم، وكأنهم ذاهبون إلى الديوان الحكومى. ولا أدرى لماذا انقرضت هذه الظاهرة، أو على الأقل تاهت فى وسط صخب الحياة، والأزمة الاقتصادية؟.
وعلى الساحة الأوروبية أصبح موضوع سن التقاعد هو الحدث الأكثر إثارة وسخونة فى فرنسا هذا الشهر؛ إذ أعلنت الحكومة عن خطتها لرفع سن التقاعد من ٦٢ سنة إلى ٦٤ سنة، وهنا انفجر غضب الشارع الفرنسى رافضًا هذا التعديل، وعمّت المظاهرات الشعبية كل أرجاء فرنسا، ودعمت هذه المظاهرات معظم النقابات العمالية وأحزاب اليسار. وما زالت الغضبة الشعبية تعصف بشعبية الرئيس ماكرون بل وأحزاب اليمين أيضًا.
وهنا راودتنى الفكرة: ماذا لو أقدمت الحكومة فى مصر إلى رفع سن المعاش من ٦٠ سنة إلى ٦٢ سنة، أو حتى ٦٤؟ أتذكر أنه كانت هناك فكرة قبل ٢٥ يناير لرفع سن المعاش فى مصر لفائدة ذلك فى زيادة نسبة التأمينات والمعاشات لصالح الحكومة. كما أتذكر أن الإدارة فى مصر بعد ٢٥ يناير تراجعت عن فكرة «المعاش المبكر» الذى كان الغرض منه التخلص من أكبر عدد ممكن من العاملين لصالح طرح الشركات والمصانع ضمن إطار «الخصخصة». وبالقطع يفضل الموظف والعامل المصرى رفع سن المعاش نظرًا للفارق الكبير بين آخر راتب يتقاضاه وراتب المعاش!
وعودة إلى الحالة الفرنسية حيث تحولت مسألة رفع سن التقاعد إلى معركة سياسية بين أحزاب اليسار الفرنسى الذى لم يعد بتاريخه السابق ولا بقوته وحيويته السابقة، وأحزاب اليمين الفرنسى القوية والحاكمة فى الفترات الأخيرة؛ إذ يحاول اليسار المحافظة على الحقوق المكتسبة للعمل والعمال أمام النزعات النيوليبرالية لليمين الفرنسى. وأتذكر أن اليسار الفرنسى كان من أنصار تشجيع الهجرة إلى فرنسا، ليس فقط من باب حقوق الإنسان، ولكن لأن هؤلاء المهاجرين هم من سيزيدون حصيلة الضرائب والتأمينات والمعاشات فى وسط مجتمع لا يميل إلى الإنجاب ويعانى من انخفاض نسبة السكان، خاصةً القوى التى فى سن العمل، مع ازدياد نسبة المعمرين وبالتالى تتضاعف ميزانيات التأمين الصحى ورواتب التقاعد.
ومن ناحية أخرى، وعلى عكس الحال فى مصر، يتمنى كل فرنسى الوصول إلى سن التقاعد للحصول على مكافآت نهاية الخدمة، وهى مبلغ كبير، وأتذكر سيدة فرنسية كانت فرِحة لقرب وصولها لسن التقاعد لأنها ستنال مكافأة كبيرة تسمح لها بحلم عمرها، وهو الرحلة إلى مصر لمدة أسبوعين ومشاهدة الآثار الفرعونية والاستمتاع بشمس الشتاء الدافئة، ولأن الفارق بين آخر راتب وراتب التقاعد ليس بالكبير، بالتالى يحلم الفرنسى بالتقاعد الذى يجعله يستمتع بالحياة مع راتب لا بأس به، ونظام تأمين صحى عالى المستوى. وأعرف أصدقاء فرنسيين بدأوا حياتهم مع شريك جديد بعد سن التقاعد.
وشتان بين الحال فى فرنسا ومصر، ولله فى خلقه شئون وشجون، وعلى الأصدقاء أن يدلونى على قهوة المعاشات التى تقدم فنجان قهوة جيدًا.