مؤلفة «كل ده كان ليه»: الفنانون عانوا فى العشرينيات من ضغوط المجتمع.. والمفاجأة أنهم مازالوا يعانون
من فترة قصيرة أعلنت دار ديوان للنشر والتوزيع عن صدور كتاب بعنوان «كل ده كان ليه؟» سردية نقدية عن الأغنية والصدارة للفنانة والمطربة فيروز كراوية، ومنذ إصداره نال الكتاب إعجاب عدد كبير من القراء، الذين احتفوا بالكاتبة وفكرة كتابها الذى تحاول فيه تتبع التاريخ الفنى فى مصر الحديثة وتحديدًا الغناء منذ سيد درويش مرورًا بأم كلثوم وعبدالوهاب وصولًا لويجز وظاهرة الراب والمهرجانات. فى كتابها قدمت فيروز بجانب القراءة النقدية فى تاريخ الأغنية والفن، قراءة جديدة للتاريخ المصرى فى العصر الحديث، وكشفت عن العلاقة بين التحولات التاريخية والاجتماعية وحركة الفن وتطوره. واليوم تواصلت «الدستور» مع الكاتبة فيروز كراوية، للتحدث عن كتابها الجديد، ونظرتها للفن ودوره ومدى تأثيره منذ ثورة ١٩١٩ مرورًا بثورة ١٩٥٢، وصولًا لوقتنا هذا وكيف تأثر الفن بالتحولات المجتمعية وغيرها.
■ فى البداية وفى كتابك وضحتِ أنه مع ظهور الغناء أو الفنون بشكل عام فى مصر الحديثة كان دائمًا الناس تنظر على العاملين فى هذا المجال بتحفظ.. وأنه شخص تمرد على فكر الأغلبية. ما رأيك؟ وهل هذه النظرة ما زالت مستمرة حتى اليوم؟ وما هو الحل من وجهة نظرك والأسباب؟!
- النظرة للمجالات الفنية والعاملين بها مرتبطة بالمسافة التى يقطعها مجتمع ما فى طريق الانفتاح والتعددية الثقافية والحريات الاجتماعية وكذلك التقدم والتحديث.
الفنون بطبيعتها تطرح مساحات جدلية وأسئلة عن الحياة الاجتماعية والنفس الإنسانية، فى قوالب متعددة منها الأغنية والمسرح والسينما بشقيها الكوميدى والتراجيدى، لذلك تستفيد بقوة من مناخ الحرية وتقبل الأطروحات المختلفة وتحسن جودة التعليم والانفتاح الثقافى.
لذلك من الطبيعى أن بداية تكوين المجال الفنى كانت عسيرة فى مجتمع تعانى أغلبيته من تخلف ثقافى تحت وطأة استعمار طويل الأمد يهمش القطاعات الغالبة من السكان والتى تعيش فى فقر محرومة من التعليم والثقافة العامة.
وما تسبب فى امتداد هذه النظرة للمجالات الفنية لعصور مختلفة هو امتداد نفوذ التيارات الأصولية بفروعها المختلفة عبر العصور أيضًا، وكذلك فشل التجمعات الفنية والطبقات الثقافية فى تأسيس مجال مستقل إلى حد ما يضع مسافة بينه وبين السلطات المتعاقبة بحيث يتمتع بمساحة أكبر للتحرر من الرقابة وتدعيم أسس الصناعات الفنية الاقتصادية وكذلك تعددية تياراتها وأصواتها.
النظرة ما زالت مستمرة لأن نفوذ التيارات الأصولية المحافظة توسع بدرجة هائلة بحيث كرس النظرة الاجتماعية المعادية والمتوجسة من الممارسة الفنية التى ظهرت فى بداية القرن العشرين، بل أصبح قطاع عريض من الفنانين هم أول من يحرمون مهنتهم ويسقطون عليها نظرة اجتماعية متخلفة، وكذلك أصبح بعض أعضاء الأوساط الثقافية أحد الأسلحة الموجهة ضد الثقافة. من وجهة نظرى، أهم القنوات التى تفيد فى تغيير تلك النظرة هى مناهج التعليم الأساسى التى يفترض أنها تؤسس اللبنات الأولى للتفكير النقدى ولأسلوب التفكير والمعرفة. مناهجنا التعليمية والإعلامية تغيب عنها الفنون إلى حد كبير، سواء من حيث تعليمها أو تقديرها. أظن أن التوجه إلى الأطفال فى عمر التعليم الأساسى هو الأولوية الأهم فى هذا الطريق.
■ نرى فى كتابك أن الفنان من كلا الجنسين، سواء كان رجلًا أو امرأة.. لجأ فى وقت ما إلى التمرد على أسرته وبيئته. فمثلًا أم كلثوم تمردت على والدها.. وكذلك عبدالوهاب.. هل الفنان يجب أن يكون متمردًا بطبعه؟
- لا يوجد نمط واحد للفنان، كما أن هناك فنانًا يشعر بأن لديه طاقة أو توجهًا للتمرد على قوالب سائدة أو تبنى وجهة نظر غير شائعة، هناك فنان يجيد مهارات مهنته ولكنه يعمل فى نطاق ما يسود حوله، ويهتم بعمله بشكل وظيفى بحت.
كل منهم له دوره ومكانته وقيمته فى مجال واسع يحتاج لكوادر ومهارات متعددة.
لكن لا تنسَ أن الفنانين من الأجيال الأولى التى ذكرتها كانت الصعوبات التى تواجههم أكثر كثيرًا بحكم أن المجال حديث التأسيس، والنظرة المعادية والمتحفظة تجاهه أكثر عنفًا، لذلك اختيارهم للهروب من الأسرة أو البيئة الاجتماعية كان شبه حتمى لا توجد بدائل له، وذلك ربما يضاعف من تقديرنا لما بذلوه من تضحيات، سواء للانضمام للمجال وتوسيعه أو لتعليم وتثقيف أنفسهم ليكونوا أهلًا لمكانتهم الكبيرة فيما بعد.
■ كانت المرأة صاحبة الجزء الأكبر من الإدانة المجتمعية ولكن من وجهة نظرك كيف استطاعت سيدة مثل أم كلثوم مقاومة كل هذا؟
- أم كلثوم تمتعت بذكاء كبير وكذلك بحظوظ جيدة نظرًا لانضمامها لنخبة متميزة وفارقة فى تاريخ مصر عند وصولها للقاهرة فى عام ١٩٢٣. عندما تتمتع بموهبة نادرة يصبح من المهم جدًا أن تلتقى بمن يرعاها ويطورها وإلا حازت مكانة أقل مما تستحق، وربما انتهت سريعًا أو أصبح إنتاجها الفنى متوسط الجودة والتأثير. أم كلثوم بوجودها بين صناع للفن مثل محمد القصبجى وزكريا أحمد وأحمد رامى فى العشرينيات استطاعت اختيار وصناعة لون غنائى يميزها عن معاصراتها، واستطاعت التخفف تدريجيًا من سطوة أبيها وأخيها على عملها بالفن، لأن نخبة ثقافية دعمتها فى مواجهة عقليتهما المحافظة والريفية غير المتلائمة مع الحياة الفنية فى القاهرة.
حصولها على الدعم من عالم أزهرى ودارس للفلسفة مثل الشيخ مصطفى عبدالرازق وأسرته النافذة، ومن النخب السياسية والاقتصادية الصاعدة بعد ثورة ١٩١٩ مثل شركات طلعت حرب التى أسست ستوديو مصر وظهرت هى من خلاله فى السينما، كل ذلك مكنها من التحول لأيقونة وطنية تشارك فى تكوين صورة كبيرة للطموح المصرى نحو الاستقلال والحداثة فى فترة تاريخية هامة.
■ يرجع البعض أسباب تدهور الوضع الفنى فى مصر ونظرة الناس إلى الفنانين إلى حقبة السبعينيات بعد انتشار جماعات الإسلام السياسى.. ولكن فى كتابك يظهر أن جذور تلك النظرة إلى الفن والفنانين بوصفهم مجموعة من المنحلين قديمة.. فما رأيك؟ أى كيف تنظرين إلى هذا سواء فى المراحل الأولى من الفن أو فى فترة السبعينيات؟
- بالطبع هى نظرة أقدم من ذلك كثيرًا، مرتبطة بإشكاليات كبيرة، على رأسها العلاقة بالمرأة وتحررها ومساواتها بالرجال، ثم الاختلاط بين الجنسين فى مجالات العمل والأنشطة الاجتماعية، وكذلك درجة الحرية المتاحة والقوى التى تعمل على تقويضها، وكما ترى ما زلنا حتى تلك اللحظة مشتبكين مع تلك القضايا كما بدأ أجداد أجدادنا منذ القرن الماضى. ونواجه هجومًا عاتيًا من تيارات انفردت بتشكيل ثقافة المجتمع وحساسياته الثقافية، وعلى رأسها تيارات الإسلام السياسى طبعًا، سواء عبر التشدد الدينى والتخلف المعرفى ورفض التفاعل مع تيارات الفكر والثقافة المتعددة، أو عبر منهجية التفكير والقراءة التاريخية التى لا تتيح الحوار وتفرض كليشيهات ثقافية على الكل أن يتبناها ويتساوى فى وجهة نظره ناحيتها.
لذلك يشعر الناس بأن المثقفين مداهنون ملتحقون بالسلطات يكررون نفس الشعارات التى لا يشعرون بصدقها، لأن الحوار والاشتباك وتنوع وجهات النظر المطروحة للجميع يفيد فى شعور الناس بالاختلاف وقبولهم له، لا يمكن أن يتبنى الناس خطابات مفروضة ومكررة لأنها «صحيحة»، أو لأن من يقولها ذو مكانة ما، الناس كانت تصدق أن طه حسين رجل فى معركة حقيقية يخسر ويكسب داخلها، وهناك أطراف ضده ومعه، حتى لو لم يفهموا تحديدًا ما هى المعركة، أعتقد أن الهامش الضيق الذى تتحرك فيه النخب الثقافية والفنية سبب أساسى فى فقدانها للمصداقية.
فى الخمسينيات والستينيات تحديدًا بعد ثورة يوليو نرى أن الفن أخذ مسارًا جديدًا ومختلفًا.. كانت الأغانى تشارك فى الأحداث الكبيرة وكانت من الأدوات التى استخدمها النظام آنذاك لزيادة جماهيريته.. وبشكل لا إرادى ارتبط الفنانون بالنظام لدرجة جعلت عبدالحليم حافظ يصاب بمرض خطير ويغضب غضبًا شديدًا وصل به إلى المستشفى بعد علمه بموت عبدالناصر.. وكذلك أصيبت أم كلثوم بالاكتئاب.
■ كيف تغير دور المثقف والفنان وارتباطه بالسلطة.. من فترة الستينيات وحتى السبعينيات؟ ولماذا تراجع الدور المؤثر للمثقف أو الفنان من السبعينيات وحتى الآن؟
- الارتباط القوى بالسلطة كانت له فوائد مثل تدعيم النشاط الفنى وتوسعه فى مساحات اجتماعية أكبر عبر الإذاعة والمشاريع الثقافية والمسرح والسينما، واكتساب الفنانين لنوع من التكريم ورفع المكانة مقارنة بالعصر السابق على يوليو.
ولكنه من ناحية أخرى أثبت فشلًا إدارًيا واقتصاديًا مع الوقت جعل القواعد الثقافية والإعلامية التى تأسست فى ذلك العهد غير قادرة على النجاح الاقتصادى مع استمرار الدولة كمنتج ومدير للعملية الفنية والثقافية بشكل شامل.
لذلك بدأ الخروج من عباءة الدولة والعودة لتأسيس مشاريع وشركات خاصة تنوعت فى إنتاجها، بحكم ظهور الكاسيت على سبيل المثال وانفتاح الشباب على الموسيقى العالمية ظهرت تنوعات موسيقية مختلفة لا توجهها لوائح الإذاعة أو لجان الاعتماد.
فى رأيى أن دور الفنان والمثقف الذى يتمتع بالقرب من السلطة ليلعب أدوارًا بها نوع من الوصاية على ذوق الناس أو توجيههم نحو ما يقرأون أو يتابعون أصبح دورًا مستحيلًا لعبه منذ السبعينيات وحتى الآن. المثقف هو من يعمل بالثقافة والفنان هو من يعمل بالفن.
■ دائمًا وفى كل الفترات كان الحكم على الفن حكمًا أخلاقيًا ودينيًا.. ما السبب؟ وهل يجب على الفن أن يقدم خطابًا وعظيًا حتى ينال إعجاب الأغلبية؟!
- هذا شىء طبيعى فى كل المجتمعات، خصوصًا التى تسيطر عليها عقلية محافظة ولم تقطع شوطًا متقدمًا فى تكوين المعرفة والتعليم والحريات. بعض المنتجات الفنية حتى فى أكثر المجتمعات تحررًا تثير عواصف من الجدل أحيانًا، وتدخل فى مناطق ملتبسة وشائكة، وهذا دورها ومغزاها لأن هذا الجانب المشتبك والجدلى لو غاب تمامًا عن الفنون تفقد جاذبيتها وقيمتها.
حتى من يبدو عليهم العداء وإصدار الأحكام الأخلاقية يتأثرون بالجدل وربما يغيرون بعضًا من مواقفهم مع الوقت، هذا طبيعى ولا يجب أن يخيف أحدًا. الفنان لا بد أن يحرر نفسه أولًا من الأحكام الأخلاقية والأدوار الوعظية حتى ينعكس ذلك للجمهور.
■ فى كتابك أيضًا قلتِ إن الاحتلال الفرنسى ومن بعده البريطانى هما سببا اصطدام المصريين بالحداثة ومفاهيمها.. لكن لماذا مصر بالتحديد من بين البلاد العربية التى كانت أيضًا محتلة آنذاك التى كانت بمثابة قبلة كل من يريد الشهرة والنجاح الفنى وتعريف نفسه للجمهور؟
- مصر كانت محظوظة عن محيطها بالطموح الاستقلالى لمحمد على عن الإمبراطورية العثمانية، وبدايته المبكرة نسبيًا مقارنة بالأقطار المجاورة فى عملية التحديث، ما ساهم فى بداية تشكيل مفهوم الدولة الوطنية بشكل أسرع ثم التطور العمرانى بالعاصمة. من ناحية أخرى، انفتحت فيها سوق آمنة للهجرات المختلفة والعمل الفنى والثقافى، وتلك التعددية كانت مساهمة بشكل كبير فى تأسيس تلك المجالات كالمسرح والصحافة والنشر ثم السينما، بتأسيس تلك القواعد والصناعات الإبداعية وتوفر الجمهور المتعدد لها كان من الطبيعى أن تكتسب تلك المكانة. ومسألة الجذب مرتبطة بالتطور السياسى والاجتماعى لبلد ما.
■ منذ عبدالوهاب وحتى ويجز الاثنان اتهما بنفس التهمة وهى إفساد الذوق العام.. ولكن فى نظرك ما سبب إلقاء هذه التهمة عليهما؟ وما الذى تغير أو لم يتغير طوال السنين؟
- هناك قطاعات فى أى مجتمع تواجه تغير الموجات الفنية بالرفض، وتقاوم تغيير ما اعتادت عليه، وهذا يحدث فى كل عصر، فى رأيى أن مشكلتنا أن هذه القطاعات واسعة وكبيرة بسبب أنها تتلقى الدعم المستمر من التيارات الثقافية المحافظة والأصولية الدينية، التى تهيمن على الفضاء العام ومناهج التعليم والإعلام.
ولا يحدث أبدًا أن يكون لمجتمع واسع ومتعدد وضخم ذوق واحد، ربما تكون هناك موجة ضاربة، ولكن فى كل العصور لا يسمع الناس نفس الأغانى أبدًا، ولا يجب أن يسمعوا نفس الأغانى وإلا أصبحوا مسوخًا حتى ذوقهم الفنى لا يختارونه.
■ فى الكتاب نرى ارتباط الفن بحركة التاريخ، سيد درويش فى ثورة ١٩١٩، أم كلثوم وعبدالحليم فى الفترة التالية لثورة يوليو ١٩٥٢.. هل لا يزال الفن مرتبطًا بحركة التاريخ تحديدًا؟ إننا الآن وبعد أحداث تاريخية كبيرة فى السنوات الأخيرة مثل ثورة يناير ٢٠١١ أو يونيو ٢٠١٣ لم يتصدر مطرب أو فنان بعينه المشهد الموسيقى والغنائى؟
- بالطبع، الفن دائمًا مرتبط بالحراك الاجتماعى والسياق السياسى وكل ما يحدث حوله. لكن ما تغير هو وسائل الصدارة وتقدم فنان بعينه لاحتلالها والتربع على القمة لفترات زمنية طويلة، والسبب فى ذلك هو تغير وسائط السمع والعرض وتحول سوق الموسيقى لمنصات «الستريمنج» الرقمية على الإنترنت، والتى أصبحت تتيح تنوعًا هائلًا للمستمع واختيارات لا نهائية متوفرة على مدار الساعة. كذلك أصبحت تكاليف الإنتاج الموسيقى أقل كثيرًا مع تقدم السوفت وير وقلة تكلفته وإتاحة إمكانية العمل عبر الاستوديو المنزلى. ومع هذا الكم المتاح وعدم سيطرة وسائل إعلامية بعينها أصبح من الصعب أن يفرض فنان واحد أو عدة فنانين ذوقًا واحدًا.
■ ما مدى ارتباط فكرة الصدارة بحركة التاريخ أو بالذوق العام؟
- الصدارة معناها أن من بين آلاف الفنانين الذين يعملون فى عصر معين هناك قلة تتمكن من تقديم الأنسب لذلك العصر بحيث تتمتع بالمكانة والجاذبية الأكبر لدى الجمهور فتصبح فى الصدارة. هذا المفهوم لا يتعلق بالأجمل صوتًا، أو الأعظم موسيقيًا، على وجه التحديد، ولا يحكم على الذائقة الفنية، ولكنه يعبر عن امتلاك تلك القلة لذكاء وقدرة على التقاط عدة عوامل فى وقت واحد والاستفادة منها فى الإنتاج الفنى، ومن ثم الاستحواذ على انتباه الجمهور.