«ذكريات لعب البنات في الحارة وكيف تعلمت الردح».. أسرار ماري منيب
ماري منيب تروي ذكريات لعب البنات في الحارة وسنوات الطفولة في دمشق، تعد ماري منيب أشهر من جسدت شخصية الحماة في السينما المصرية، حتى صارت علامة مسجلة تخصها وحدها، أو على أقل تقدير تذكر ماري حينما تذكر مقالب الحموات.
ومن أشهر الأفلام التي قدمتها ماري منيب ــ والتي رحلت عن عالمنا في مثل هذا اليوم من العام 1969ــ عن الحموات، حتى أن بعض هذه الأفلام قد حمل اسم الحماة، “حماتي قنبلة ذرية”، “حماتي ملاك”، “الحموات الفاتنات” وغيرها.
وفي عدد مجلة الكواكب الـ 440، والصادر بتاريخ 5 يناير سنة 1960، باحت ماري منيب بذكرياتها وبعض من مواقف حياتها التي لا تنسي في الغوطة بدمشق حيث مسقط رأسها.
مضاربات والد ماري منيب
تستهل “منيب” ذكرياتها في غوطة دمشق: "في ضاحية من ضواحي دمشق، وعلي مقربة من حدائق "الغوطة" الغناء، كانت تعيش أسرتنا، وتقيم في منزل صغير، يملكه أبي "سليم حبيب نصر" الذي كان معروفا باسم "الخواجة سليم".
وكانت أسرتنا مؤلفة من أبي وأمي وشقيقتي التي تكبرني بعام ونصف وأنا. وقد ورث أبي ثروة طائلة، تضاعفت علي مر الأيام بفضل مهارة أبي في أعماله التجارية التي كان يمارسها بين دمشق والقاهرة، وكان يمكن أن نظل أغنياء ـ كما كنا ـ لولا نزوة طلعت في دماغ أبي، حملته علي المضاربة علي كونتينرات القطن في بورصة الإسكندرية، وفي يقينه أنه سيصبح مليونيرا في أيام وجيزة. كان يدخل المضاربات تارة يرتفع إلي القمة ويربح في عملية واحدة عشرات الألوف من الجنيهات، وتارة أخري يهبط إلي القاع، والابتسامة لا تفارق شفتيه، وكان يقضي أغلب أيامه في القاهرة، ولا يحضر إلينا إلا أياما معدودة كل ثلاثة أو أربعة أسابيع.
الإفلاس بسبب مضاربات البورصة
وتتابع ماري منيب: وظل يسير علي هذا المنوال حتي جاءنا يوم وقد شحب وجهه، وزاغت عيناه واضمحلت صحته ليقول لأمي: ليكي يا مستورة، راح الربح والرأسمال وصفينا طفرانين". وليكي في لغة إقليمنا الشمالي معناها "خدي بالك" أما الطفر فمعناه الإفلاس واللهم حوالينا ولا علينا.
واتضح لنا أن المضاربات مسحته تماما، وخرج منها مدينا ببضعة آلاف من الجنيهات. واتجه إلي أملاكه وأراضيه وبساتينه، يبيعها بالثمن البخس، ويجمع ما يصل إلي يده من المال ويعود إلي البورصة، فيخسرها ويرجع إلي دمشق خالي الوفاض. وبعد الأملاك، أتي علي البيت الذي نقيم فيه، وعلي المصوغات والمجوهرات التي كانت تملكها أمي، حتي أصبحنا “يا مولاي كما خلقتني”.
السفر للقاهرة
وتتابع “منيب”: "وسافر أبي إلي القاهرة ومعه مبلغ من المال اقترضه من بعض معارفه، وترقبنا عودته رابحًا أو خاسرًا، ولكن توالت الشهور والأعوام دون أن نقف له علي أثر، حتي المكاتبات لم يكن يرد عليها. وجاءت إلينا إحدى قريباتنا وقالت لوالدتي: ماذا تنتظرين؟ سافري إلى القاهرة لتعرفي ماذا جرى لزوجك، وعملت أمي بنصيحة قريبتها فسافرت وصحبتني أنا وشقيقتي "أليس" وكانت سفرية شاقة على ظهر المركب، فوصلنا إلي الإسكندرية ونحن أشبه بالمرضى الخارجين لفورهم من المستشفى، وقضينا ليلة بالإسكندرية، وفي اليوم التالي سافرنا بالقطار إلى القاهرة.
وفاة الوالد دون نظرة وداع أخيرة
وتمضي ماري منيب في ذكرياتها: "وفي القاهرة بحثنا عن أبي، في المكان الذي اعتاد الإقامة فيه، فعلمنا أنه ظل شهورًا طويلة وهو مريض ثم سافر إلى دمشق في نفس اليوم الذي سافرنا فيه نحن إلى الإسكندرية. وفكرت والدتي أن تعود أدراجها إلي دمشق، ولكن قبل أن تعد العدة للسفر، وصل إليها خطاب ينعي أبي، لقد وافته المنية عقب وصوله إلي دمشق بثلاثة أيام، وهكذا توفي أبي دون أن نراه، بل دون أن نشترك في تشييع جنازته، ولم تجد والدتي أية فائدة من العودة إلي دمشق، إذ لم يبقي لنا هناك من نعول عليه في معيشتنا، بعد أن باع أبي كل ما نملكه هناك، ولم يكن لنا أقارب يمكن الاعتماد عليهم، فاعتمدنا علي الله وعلي أنفسنا، وأقبلت أمي تحاول أن تدبر أمر معيشتنا في بلد نعيش فيه بلا أهل، ولا مال، ولا رجاء.
السكن الأول في بركة الرطلي بالفجالة
وتشير “منيب” إلى أن أول سكن كان لها في القاهرة بالفجالة: استأجرنا شقة أرضية صغيرة بحي الرطلي بالفجالة، كان إيجارها لا يزيد عن سبعين قرشًا على ما أذكر.
وأقبلت أمي تحاول أن تدبر أمر معيشتنا. وعانينا أول الأمر متاعب متعددة، كان أخفها وأهونها، الحاجة والفقر والحرمان، ولكن لم تلبث أن فرجت، فقد كان أبي رغم استهتاره بالمال، ورغم مرضه في أيامه الأخيرة، يفكر فينا وفي مستقبلنا، فأودع مبلغًا من المال في بطريركية الروم الكاثوليك، وأوصي بأنفاقه علينا بمعدل ستة جنيهات كل شهر، أذا وافته منيته فجأة.
ماري منيب في مدرسة "ديليفراند"
وتمكنت أمي بهذا المبلغ من تنظيم شئون معيشتنا، فألحقتني أنا وأختي "أليس" بمدرسة "ديليفراند" ومقرها شارع حبيب شلبي ببركة الرطلي، لقربها من المنزل.
وعلى الرغم من ضآلة هذا المبلغ، فقد كنا نعيش سعداء، لا يكاد ينقصنا شئ، ولكن لم ينقض عام واحد، حتي أنبأتنا البطريركية بنفاد المبلغ المودع لديها، ولم تستسلم أمي لليأس، بل شمرت عن ساعد الجد والنشاط، وراحت تشتغل بحياكة الملابس لسيدات الحي، وكنت أقوم أنا وشقيقتي بمعاونتها، وظفرت أمي بالنجاح في هذه المهنة، وأمكنها أن تجني منها ربحا يفي حاجتنا المتواضعة، وأحيانا يزيد فنرفه عن أنفسنا بالذهاب إلى سينما المنظر الجميل، وكانت علي بعد دقائق من المنزل، وكان ثمن التذكرة في الدرجة الأولي خمسة عشر مليما.
من ذوات الملايات اللف تعلمت “الردح”
وتلفت ماري منيب إلي: كنت كثيرة اللعب مع بنات حارتنا اللاتي كن في مثل سني، وحدث يوما أن شاهدت خناقة بين سيدة "بنت بلد" من ذوات الملاية اللف، وبين سيدة أفرنجية تتكلم اللغة العربية بلكنة يونانية، وقامت بنت البلد بفاصل "ردح" أضحك أهل الحارة جميعا. كانت تفرد ملايتها وتطويها وتقول للخواجاية: "يالله يا إبرة مصدية، جنب الحيط مرمية، يا مسلوعة يا ناشفة، يا عصاعيص المعقربة، يا حبل الغسيل، يا أم منقار طويل".. إلي آخر هذا الموشح الذي كانت تحفظه جيدا سيدات كوم الشقافة وحوض يردق في ذلك العهد.
أعجبت بهذا الردح، واستهوتني الطريقة التي كانت تردح بها بنت البلد، وعلي الرغم من أنها كانت تتكلم بسرعة سبعين كلمة في الدقيقة، إلا أن "مخي الخشبي" تفتح لها، فحفظتها عن ظهر قلب. ومن يومها ابتكرت لبنات حارتنا لعبة جديدة، هي لعبة "بنات بلد وخواجايات"، وكلما لعبنا هذه اللعبة، أسرعت أنتزع ملاية السرير وألتف بها، وهات يا ردح ضد الفريق الذي يمثل دور "الخواجايات"، وكان المارة يقفون للفرجة علينا ويضحكون ملء أفواههم لهذه "الشلقاية الصغيرة" التي برعت في هذا اللون من الردح.