أوروبا: تاريخ وحاضر «2-2»
ما زلنا فى أجواء أوروبا وهذا الكتاب الصغير فى حجمه القيِّم فى تناوله ومحتواه وخاتمته المهمة التى تستشرف مستقبل أوروبا. وفى الحقيقة يصعب على أى كاتب معالجة تاريخ أوروبا من العصر القديم حتى نهايات القرن العشرين فى هذا الحيز المحدود من الصفحات الذى لا يصل إلى مائتى صفحة، لكن هيرست استطاع ذلك بذكاء وقدرة يُحسد عليهما.
لجأ الكاتب إلى مدخل نسميه «الخلفية التاريخية»؛ إذ خصص الفصلين الأولين لاستعراض تاريخ أوروبا القديم والوسيط فى الفصل الأول، ثم أوروبا المعاصرة فى الفصل الثانى. وبعد هذا التاريخ العام والوجيز، كان بوسع المؤلف معالجة العديد من الظواهر التاريخية المهمة فى التاريخ الأوروبى العام مثل الشعور الكلاسيكى، الغزوات والفتوحات، أشكال الحكومة، الأباطرة والبابوات، اللغات، عموم الناس، التصنيع والثورة، الحربين العالميتين، وهى بالفعل ظواهر مهمة فى التاريخ الأوروبى يمكن عن طريق معالجتها رصد المتغيرات العميقة فى التاريخ الأوروبى.
منذ البداية تتضح منهجية المؤلف وعمق فهمه للتاريخ الأوروبى، رغم أنه أسترالى الجنسية، ويكتب هذا الكتاب فى الأساس لطلابه فى الجامعات الأسترالية ليتعرفوا على إرثهم الأوروبى الذى لا يزال يلعب دوره ليس فقط فى المجتمع الأسترالى، ولكن أيضًا حتى فى المجتمعات غير الأوروبية مثل منطقتنا العربية.
وبذكاء شديد يحدد هيرست ثلاثة عناصر أساسية لعبت دورها المهم فى تكوين الحضارة الأوروبية على مر العصور: أولها بطبيعة الحال ما أطلق عليه «ثقافة الإغريق والرومان»، وثانيها المسيحية كديانة وثقافة، أما ثالثها فهو «ثقافة المحاربين الجرمان الذين أغاروا على الإمبراطورية الرومانية وداهموا أراضيها». وهى بالفعل عناصر حاكمة وأساسية دفعت المؤلف إلى الخروج بهذه النتيجة المهمة: «كانت الحضارة الأوروبية مزيجًا من هذه العناصر».
أمر آخر مهم فى تناول المؤلف تاريخ أوروبا لا سيما فى التاريخ الحديث والمعاصر، وهو التركيز على أوروبا الغربية: «فليست كل أجزاء أوروبا بذات الأهمية فى تشكيل الحضارة الغربية، فالنهضة فى إيطاليا، والإصلاح الدينى فى ألمانيا، والحكومة البرلمانية فى إنجلترا، والديمقراطية الثورية فى فرنسا كانت لها آثار أكبر من تقسيم بولندا على سبيل المثال».
وبالقطع لا نستطيع فى هذا المقال تقديم عرض تفصيلى للمحتوى القيِّم لهذا الكتاب، لذلك سنلجأ إلى بعض الإشارات إلى النتائج المهمة التى خرج بها المؤلف من معالجته لتاريخ أوروبا، وسنركز على ما جاء بشأن أوروبا المعاصرة على وجه الخصوص. من ذلك بيان أهمية العامل الاقتصادى فى التحولات المهمة والخطيرة فى الشأن الأوروبى: «لولا الكساد الكبير، وتأثر ألمانيا بشدة به، لم يكن للنازيين إلا البقاء كمجموعة بلا تأثير يُذكر».
ويوضح المؤلف كيف أدى فشل هتلر فى غزو الاتحاد السوفيتى، إلى نجاح السوفيت فى اقتحام شرق أوروبا، وإخضاعه لنفوذهم، وانقسام العالم إلى كتلتين شرقية وغربية، وسيادة عقلية الحرب الباردة.
ويعود المؤلف مرة أخرى لبيان أهمية الاقتصاد فى صناعة التاريخ، وكيف اتفق العَدّوان القديمان «ألمانيا وفرنسا» منذ عام ١٩٥١ على تجميع مواردهما من الفحم والحديد لتفادى المنافسة فى صناعة الصلب. ثم يتابع المؤلف تطورات هذا الموقف وكيف كان بداية حقيقية للسوق الأوروبية المشتركة، وكيف دفع ذلك كلًا من فرنسا وألمانيا إلى تبنى فكرة الاتحاد الأوروبى فى عام ١٩٩٣، ثم الدخول فى منطقة اليورو.
إنه بحق كتاب شيِّق ومهم لفهم الجار القريب، القارة العجوز.. أوروبا.