صبرى فواز.. صاحبنا اللى ف آخر الشارع
ربما لأنه أحد أبناء جيلى لم أكتب عنه طيلة ثلاثين سنة سوى مرة واحدة.. وربما لأننا نعرفه ارتحنا لفكرة أنه ممثل كويس وخلاص.. الآن نندهش مع المندهشين كلما مر أمام الشاشة.. طوفان من مشاعر الفرحة كلما طل.
ما هذا الذى يفعله صبرى فواز فى مسلسله الجديد؟.. من أين جاء بكل هذه السطوة والقدرة على الاختراق حتى كأنك تشعر بأنه ينتهى من المشهد ثم يجلس بجوارك يتابع باقى أحداث مسلسل بينا ميعاد.. يتناول من طبق الفيشار ويغنى ثم يخرج سيجارة ويدخن ثم يتذكر أنه فى المسلسل فيطفئ سيجارته ويقوم لينط داخل الشاشة يشخط فى أحد أبنائه الأربعة ثم يخرج ليذهب إلى شركته يتابع مناكفاته مع شيرين رضا، ثم إذ فجأة تجده على المقهى أمام بيتك يمسك بالموبايل يكتب أحد بوستاته التى يغازل فيها المعجبين ويونسهم بقصائد شيخه ومولاه فؤاد حداد.. لقد أزال فواز ذلك الحائط الوهمى تمامًا.. وصار واحدًا من الجالسين أمام الشاشة يتلذذ بتلك الكتابة البديعة لهانى كمال.. فمن أين جاء الفتى بكل هذه التفاصيل.. هى التفاصيل إذن سر هذا الفواز.. لقد خدعنا صبرى كل هذه السنوات وكان بيحوش.. رغم أنه لم يكن بخيلًا أبدًا.. كان كريمًا مثل ناس قريته فى سيدى سالم.. مثل كل فلاحى كفرالشيخ من أول طلة.. لكن يبدو أن تحويشته كانت أكبر من خيالاتنا عن مدخراته..
لا أذكر متى التقيته أول مرة.. ولا أين.. ربما فى ساحة معهد الفنون المسرحية حيث جاء من الإسكندرية.. ربما فى مقاهى وسط البلد مطلع تسعينيات القرن الماضى.. ربما فى ندوة بقصور الثقافة حيث كان مهمومًا بمسرح الناس.. لا أعرف.. لكننى أتذكر يوم أن ذهب ليقف أمام صفية العمرى فى أحد مشاهد ليالى الحلمية.. ثم عاد ليحكى لنا فى حجرة ضيقة من حجرات شقة متواضعة بجوار قاعة سيد درويش فى العمرانية.. لم يكن منبهرًا كعادة أبناء الصعيد والفلاحين من أمثالنا وهذا ما أغاظ المخرج الراحل على رجب وكان ثالثنا.. والممثل المظلوم أحمد قنديل.. كان يتحدث ببساطة عن أسامة أنور عكاشة وعم إسماعيل عبدالحافظ وجو اللوكيشن وكأنه يتحدث عن يوم الدراس بالنورج فى غيط البلد.. يمشى فواز عادة بخطوات سريعة لكنه يتحدث بهدوء وابتسامة لا تفارق وجهه.. كان المسرح فتنته الأولى والأخيرة.. يقرأ ويقرأ ويقرأ والمسرح على رأسه.. عمل مخرجًا لسنوات وظننا أنه سيكمل فى نفس الطريق.. لكن الشاشة خطفته.. فتوارى الشعر قليلًا لكنه لا يفارقه حتى إنه أصدر ديوانًا لا ليزاحم الشعراء ولكن حتى لا ينسى.. من دور مع عم إسماعيل إلى دور صعيدى مع خيرى بشارة فى «مسألة مبدأ».. ومن جيل الأساتذة إلى جيل أحدث مع عشرات النجوم والقصص والمشاهد حتى وصلنا إلى محطة «كلمنى شكرًا» وجمل يا عم الحاج وخميس المشاغب فى «رمضان كريم».. عشرات الأدوار.. وعشرات المسلسلات والأفلام.. وفى كل مرة يكتب أحدهم.. فيه ممثل كبير هنا.. الرجل الذى أدى دور محمد مرسى هو نفسه الذى أدى دور بليغ حمدى وهو نفسه رجل الميزان وصعيدى كف القمر.. رجل الوصايا.. شخصيات لا تشبه بعضها أبدًا.. وفى كل مرة هو يمنحنا بعضًا من تحويشته.. ويبتسم.. هذه المرة أصبح بطلًا لا أحد بجواره.. ربما استعدنا شيرين رضا أيضًا.. لكن لماذا نحن فرحون بهذا الشكل بصبرى فواز؟.. الناس مشغولة بامتحانات نصف العام.. وهذا الوقت ليس رمضان.. ومش وقت فرجة يعنى.. فلماذا كل هذا الفرح؟.. هل نحن مدينون باعتذار للصابر الفواز ولذلك نغدق عليه ما حوشناه نحن أيضًا من محبة كان يحتاجها منذ سنوات ولم نمنحه إياها مفضلين جملتنا الأثيرة.. كله بوقته.. يبدو ذلك.. أو ربما نحن نقوم الآن بدور كان على النقاد أن يقوموا به منذ سنوات.. على كل حال.. السعادة بنجاح صبرى فواز ليس مبعثه أنه أحد أصدقاء العمر الذى أكلته طرقات المدينة.. فالناس فى كل حتة فرحون أيضًا.. فرحون لدرجة أنهم يكتبون على السوشيال ميديا عقب نهاية كل مشهد.. وكأنها سحابة مطمورة منذ سنوات فى سماء العاصمة كورتها الريح فى نص طوبة وألقت بدموع فرحها مرة واحدة فأغرقت شوارعنا بكل هذا الفيض من البهجة.. الآن الجميع يشير إلى صاحبى وهو يقول هذا الرجل.. هو صاحبنا الذى يسكن آخر الشارع.
بالمناسبة أنا لا أكتب هنا عن ممثل مصرى متمكن.. ولا عن صديق أعرفه.. يبدو أنها خطوة مؤجلة لموعد آخر.. لكننى أكتب عن الناس الذين يملكون هذه القدرة على المفاجأة فى أوقات غير متخيلة.. أكتب عن الفرصة التى ينتظرها عشرات الموهوبين من أبناء مصر وتنتظر ذلك الميعاد الذى تتفجر فيه.. أكتب عن الحلم والانتظار والشغف.. رحلة الرجل ليست قصيرة.. وما عاشه فيها ليس قليلًا.. كم مرة أنتظر موعدًا مع مخرج ولم يحدث.. كم مرة تم ترشيحه لعمل ما ثم غاب الذين رشحوه وجاء آخر ليحصل على فرصته.. كم مرة مشى على قدميه من أول المدينة لآخرها هربًا من الخنقة والاحتياج وعصف الظروف.. كم مرة انتظرت زوجته وأطفاله موعدًا للسفر ولم يستطع لأنه ينتمى إلى مهنة لا تمنح العاملين بها راتبًا شهريًا.. كم مرة طاردته الكوابيس بأنه سيعود إلى قريته دون أن يحصل على حقه فى الحياة والنجاح لولا أن ابتسامة عابرة للسيدة هلالة الأم التى ربت ودعمت وساندت منحته جرعة صبر جديدة.. لا أكتب قصة نجاح الفتى بقدر ما أبحث فيها عن هؤلاء الذين لا يتوقفون.. وكأنهم المجرى الذى لا يبالى بالنخيل الذى يرحل فى الاتجاه المعاكس.. هى صفحة فى كتاب المصريين القادرين دومًا على السفر حتى آخر نفس.. ودومًا بينا ميعاد.