رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ميدان الأوضة» لصفاء أبوصبيحة.. أن تسقط طواعية في ٢٩ فخا

جريدة الدستور


الدخول إلى المجموعة الشعرية "ميدان الأوضة" لصفاء أبو صبيحة، يشبه الدخول إلى خيَّة مليئة بالشراك الخداعية، فلا تعلم من أي اتجاه سيأتيك السهم أو ترديك الطعنة. هي لا تحذر قارئها الذي يجد نفسه محصورًا داخل زوبعة من التشتت والفقد والمعاناة والأمل المفقود والفرحة المنكسرة، فكل شيء مبتور لديها، النداء وابتسامة الثغر وانطلاقة الجسد ولمسة الشقيق.
تكتب صفاء "ميدان الأوضة" من داخل جحر. ليس أمرًا خارقًا أن يحوّل الشاعر جحره إلى عالم شاسع، لكن صفاء تخرج من الجحر وتعود إلى الجحر، الذي هو ميدانها وغرفتها وسريرها ودولابها، وأشياؤها الصغيرة وملابسها، عالمها، وزنزانتها الضيقة التي تعيش مأساتها وتطلق ضحكاتها غير الصافية، بين جدرانها الأربعة، هي لا تهرب أبدا إلى اليوتوبيا.
لا توجد بوابتا دخول وخروج إلى ومن ميدان صفاء، كأنه مثلث برمودا، متاهة دائمة يتوزع فيها تسعة وعشرون فخًا هي عدد قصائد المجموعة.. وصفاء ذكية تجر قدميْ قرائها من أول خطوة داخل أرضها لتسقطه في الفخ تلو الآخر. ولنتجول في هذا الميدان، نلتقط زهرة ذابلة من هنا ونمسح بعض الدماء من هناك، ولنبدأ بالإهداء، الذي هو رأس الحربة ووقود المعركة، (إلى محمد أخويا.. أولًا وأخيرًا). 


محمد، هو راية الفقد، بدايته ومنتهاه، وكل ما يدور في فلكه هي كواكب مفقودة متشرذمة، الروح والجسد والعناصر والأهل والأفكار، وحتى السرير والباب والنافذة.. هي تطلق صيحة المراسي البدوية القديمة التي بالكاد تخرج من فمها، وكأنها اليمامة بنت كُليب، لكنها لا تحرض على الفتك والقتل، بل هي وديعة تبحث عن الدفء، وأنت كمتفرج لا حول لك ولا قوة، ما تلبس أن تدخل إلى الميدان حتى ترى بعينيك أول حفرة وتسقط فيها بمحض إرادتك. 
حفر واضحة للعيان كأنها إنذار حرب، أو أغنية حزينة ترددها نسوة القبائل قبل احتمام السيوف في أيادي رجالهن، فهي ترصد جميع المتخمين بالألم والمعذبين بالتفكير والباحثين عن الملاذ الآمن دون أمل.. تقول في المفتتح: «للقاعدين على التختة الأخيرة.. والنازلين في المحطة الأخيرة.. في الحرب الأخيرة.. للثورة الأخيرة.. للمتأخرين زيي.. والموعودين بالحزن.. والضربة الأخيرة.. والفرصة الأخيرة.. لأنفاسي الأخيرة وقبل الأخيرة.. ول قبل مني بسفر مش أخير.. باكتب وفي قلبي كلمة أخيرة».
نحن الآن أمام قتال وطعن ورصاص وقلوب تتمزق أو بالأحرى أنفاس أخيرة وكلمة أخيرة.. لقد تورط القارئ في أن يكمل اللعبة، لعبة التفتت إلى قطع صغيرة، وكأنها حالة هروب دائم من نفس النقطة إلى نفس النقطة في هذا الميدان، دون هدف أو رغبة محددة، لا نتحدث هنا عن العبث أو خواء الروح، بل عن العالم الضخم أو المتضخم الذي لا يستحقه الإنسان، العالم الذي يمكن النجاة منه عبر اختزاله في غرفة صغيرة، وعن اللا جدوى، وعن الهزيمة غير المبررة والخسائر التي لا تتوقف، مثل ذلك المسمار في قصيدتها «الهروب»، المسمار المرشوق في الحائط دون هدف محدد إلا أنه مرشوق كشوكة في الجسد أو كعلامة استفهام، أو كموقف من الوجود ومن الانسحاق الإنساني، أو كفرصة ضائعة للبحث عن أي دور أو وظيفة أو رؤية: تقول: «من كام ساعة.. مسمار في الحيطة.. شَبَك في هدومي.. مسمار بلا معنى.. مش شايل برواز ولا صورة.. ولا وقت معلَّق في رقبته.. مدقوق في الشارع ع الحيطة.. ولا شايل حاجة.. كمَّلت ف سيري».
لكنها وكفنانة ملحمية، تحول ذلك الموقف الصغير مع ذلك المسمار إلى فخ مُهيئٍ لطحن مزيد من الضحايا الساقطين، وأنت كقارئ متورط إنسانيا قبل أن يكون شعريا، في هذا التداعي.. تقول: «ما أخدتش بالي ف لحظتها.. مِن نَتش كبير موجود في الكُم.. روَّحت البيت.. ولقيت أشخاص.. بتخُر مع الدم من الجرح.. كان جرح بسيط وغويط جدًا».
لكن لا شيء يحدث صدفة عند صفاء، كان لا بد لها من لذلك النتش أو الجرح الصغير، حتى يتحرر جسدها من ساكنيه.. تقول: «مع ذلك ولأول مرَّة.. قررت أتشجع وأقاوم.. واضغط على جرحي.. فاتساقط أشجار وشوارع.. ولقيت الناس بتسيل مني.. لحظتها.. قررت أحرِّر كل المساجين جوَّايا.. بإيديا ودبوس الطرحة.. وبقيت أحفر على جلدي مخارج واضغط أكتر.. يهربوا أفواج.. أحرار مني»، وتختتم: «هرَّبت بلاد وبلاد.. وبشر.. ودَّعت خروجهم من جسمي.. وقفلت عليَّا الزنزانة»، هذه هي لعبة التفتت التي تحترفها، فلسفة الانشطار أو التشظي في نسخ صغيرة متكاثرة تتطاير وتتوزع وتتبخر خارج عالم «ميدان الأوضة»، وكأن تلك القطع رسل تبعثهم لاستكشاف الخارج، لأنها استمرأت أو أمنت القعود هنا في تلك البقعة الآمنة الصغيرة.
عملية الهروب هذه نجدها حاضرة بصورة أو بأخرى، في قصيدة «خوف النبية»، فهي تهرِّب أجزاء صغيرة منها حتى ولم من «خرم إبرة»، لكن مجموع جسدها يظل أسيرا في غرفتها، فهي تخاف من العالم، من كائناته المؤذية وصخبه الحاقد.. تقول: «من داخل بيتنا.. من فتحة بسيطة صنعها فضولي على الشباك.. بصيت منهاَ ولقيت العالم قدامي.. وْحش ومسعور.. وبيقتل بعضه بغير ما يحس ضميره بذنب.. مخاليق بتموت وسط الزحمة بلا صوت أو نعي.. مخاليق بتموت من غير دوشة.. وحروب وهزايم وانتصارات.. إفراط في الوعي- وقنابل باردة من الأفكار بتبيد حضارات».
ونفس الأمر في قصيدتها «في أثر دهشة فراشة»، والتي تُعْمل خلالها نظريتها الخاصة بها للتناسخ، خاصة في استحضار «خوان مياس»، حيث روحها المتبخرة التي تطير لتلتقيه وتعايش معه تفاصيله في منزله، وتحادثه حول حبكاته الفنية.. تقول: «باستغرب لما اترمي في كتـاب.. وأسيب نفسي وأميل على كتف الكلمة وأنام واصحى.. والاقي خوان مياس بيحضر فنجان القهوة.. وبياخد رأيي في روايته الجاية.. وبيحكي لي عن مدى تأثير ضلي في الحدث الأعظم».
الهروب متواصل عند صفاء.. لا تسأمه ولا تفقد الأمل في النجاة، رغم أن الأمل ضعيف، فهي ترضى أحيانا كثيرة بأن تترجم محاولاتها للهرب في أن تسكب نفسها على الورق وفي القصيدة، متعرية من مخاوفها وإشكالياتها وآلامها الجسدية وبكائها، متجردة من كل شيء إلا من نفسها، مثلها مثل الغريق الذي يستنجد بقشة، كما في قصيدتها «الكر والفر»، تقول: «بضوافري اللي كَلها مني التوتر.. قشرت في الأيام.. وفضلت أفر في دفاتري القديمة على أمل ما اعرفش شكله.. ما لقيتش شيء.. فلقيتني منها بـافر واخرج للحياة ومن الحياة فريت للقصيدة  للكلام المجهد، والشعر الـمجهض اللي ما بيتقالشّ، بيتحول فضيحة».
معارك كثيرة تخوضها صفاء خلال «ميدان الأوضة»، كلها معارك تشبه الاشتباك مع طواحين الهواء، كلها داخل تلك الغرفة السحرية، وهي تخوض تلك المغامرات لا لشيء إلا لاستعادة نفسها وإنسانيتها على الورق.