أوروبا: تاريخ وحاضر «١»
تعتبر أوروبا، بحق، الجار القريب لنا، حتى إن منطقتنا العربية كانت تسمى حتى وقت قريب «الشرق الأدنى» أى الشرق القريب من أوروبا، وفى إشارة أيضًا إلى شرق آسيا «الشرق الأقصى» أى الشرق الأبعد عن أوروبا جغرافيًا ولكن أيضًا ثقافيًا. وبصرف النظر عن التاريخ الاستعمارى لغرب أوروبا، فإن أوروبا الآن هى الشريك الأكبر لنا اقتصاديًا وثقافيًا. من هنا ضرورة التعرف على أوروبا عن قرب حتى يمكنا التعامل معها بشكل عملى.
ومن الكتب المهمة التى صدرت فى هذا الشأن كتاب «أوروبا: تاريخ وجيز» لمؤلفه جون هيرست، وقام بترجمته أستاذ الاقتصاد الشهير محمود محيى الدين. ويقدم الكتاب، وعبر حيز محدود من الصفحات، صورة بانورامية واضحة لتطور الأفكار والمجتمع فى أوروبا عبر العصور، مع عناية خاصة بالقرن العشرين. لكن المقدمة الوافية التى وضعها محيى الدين عن حاضر أوروبا لا تقل أهمية عن متن الكتاب الخاص بتاريخ أوروبا، لذلك قررنا البدء باستعراض الحاضر نظرًا لأهميته المُلِّحة للقارئ العربى فى هذه الظروف الخاصة والصعبة التى تمر بها أوروبا، بل والعالم كله، وسنخصص المقال القادم لاستعراض التاريخ الوجيز لأوروبا.
منذ البداية يصدمنا محيى الدين بمقولة إن أوروبا لم تعش حالة هدوء مطلقًا عبر تاريخها الطويل، وبالتالى هى تعتاد على تجاوز الأزمات من خلال ما أطلق عليه «البراجماتية المرتكزة على المبادئ». كما يوضح لنا محيى الدين أن أوروبا تعيش حالة أزمة حتى قبل جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، لكن ربما زادت الأحداث السابقة من حدة الأزمة، وتعترف أوروبا بذلك صراحة فى تقرير «استراتيجية الأمن الأوروبى» الصادر فى عام ٢٠١٦، الذى نص على أن أوروبا «تعيش أزمة وجود».
ومن أجل التعامل مع هذا الوضع رسمت أوروبا استراتيجيتها القائمة على أساس «البراجماتية المرتكزة على المبادئ»، وهى تحديدًا أربعة مبادئ، يأتى على رأس ذلك مبدأ «الاتحاد»، فلا يجب أن يكون هناك خلاف بين المصالح القومية لكل دولة عضو والمصالح الأوروبية المشتركة. أما المبدأ الثانى فهو التواصل وعدم العزوف عن الإسهام فى المتغيرات العالمية، فالانسحاب لا يستقيم مع عالم تتواصل أطرافه، كما أن الانسحاب سيؤثر على العوائد الاقتصادية. المبدأ الثالث هو تحمل المسئولية فى هذا العالم الذى يشهد تنافسًا وصراعات عدة؛ حيث تعطى الاستراتيجية الأوروبية الأولوية لمحيطها الداخلى، والأقاليم القريبة منه، لاحظ حالة أوكرانيا، مع تعاون على المستوى العالمى. المبدأ الرابع هو مبدأ المشاركة فى تحمل المسئوليات مع دول ومنظمات إقليمية ودولية، فضلًا عن مؤسسات المجتمع المدنى والقطاع الخاص للمشاركة فى بناء نظام دولى جديد.
ثم تنتقل الاستراتيجية من المبادئ إلى الأولويات؛ حيث تحدد عدة أولويات وهى: الأمن الداخلى للاتحاد الأوروبى والدفاع عنه، ثم المساندة، وتعنى مساندة المؤسسات والديمقراطية فى المجتمعات المحيطة بأوروبا من آسيا الوسطى إلى إفريقيا، وتدعيم سياسة الجوار الأوروبى وتبنى سياسة أكثر فاعلية بشأن الهجرة، والتعامل مع النظام العالمى وأسس حوكمته، فدون قواعد ومعايير مستقرة فإن المصالح الحيوية الأوروبية تتعرض لمخاطر جمة.
ويرصد محيى الدين مشكلتين هيكليتين يعانى منهما الاتحاد الأوروبى؛ أولاهما: التركيبة السكانية التى تنزع متوسطات الأعمار فيها إلى الكبر، أما المشكلة الثانية فتتعلق بتراجع الإنتاجية وانخفاض كفاءة كثير من المشروعات وقطاعات الإنتاج فى أوروبا.
ويشير أخيرًا إلى التحدى الذى تشكله القوى الصاعدة فى شرق آسيا على الوضع التاريخى لأوروبا، وفى عبارة بليغة وثاقبة يقول: «قد أنجزت دول غير أوروبية فى زمننا المعاصر فى عدة عقود ما استغرق أوروبا قرونًا فى تحقيقه».