«المتن المجهول».. المقاومة بالشعر.. محمود درويش الباحث عن وطن
القاهرة كانت الخطوة الأهم فى مشوار الشاعر الكبير
نَشَرَ خمس مجموعات شِعْرِيَّة قبل خروجه من فلسطين واتهامه بالخيانة
دعاه عبدالناصر للإقامة فى مصر بعد أن تقابلا فى موسكو عام 1970
أكد أن السبيل الوحيد للانتصار على العدو هو العلم والتحليل
من شواطئ غزة إلى شواطئ الإسكندرية، مرورًا بصقيع روسيا، ثمة إنسان يبحث عن مفهوم الوطن بعد أن وجد نفسه مضطرًا للسفر بجنسية العدو الأول لوطنه ومغتصب أرضه، هذا العدو الذى سيسجنه داخل وطنه وسيضيق عليه الحصار، بالرغم من أنه لا يملك سوى الكلمات التى ينظمها فتخلق أشعارًا ترهب عدوه الذى يخشى المقاومة ولو حتى بالحروف.
فى كتاب «المتن المجهول» الصادر عن دار المتوسط «ميلانو» يبحث الكاتب سيد محمود عما لا يعرفه الكثيرون عن حياة واحد من أهم شعراء العرب وهو محمود درويش، يتتبع الكاتب حياة درويش فى مصر، لنعرف أن القاهرة كانت الخطوة الأهم فى مشوار الشاعر الكبير، وكانت بمثابة حاضنة فنية قبل أن تكون حاضنة سياسية أيضًا.
سيطلع القارئ داخل الكتاب على المقالات المجهولة التى كتبها درويش فى تلك الفترة فى مختلف الصحف المصرية، وهى مقالات لا تتعلق بالأدب والشعر والثقافة فقط، بل نجد فيها تحليلًا سياسيًا دقيقًا لما يجرى من أحداث على الساحة العربية.
ولكن قبل هذه الرحلة أو المعايشة التى سيقوم بها قارئ الكتاب مع محمود درويش فى قاهرة المعز، فإن القارئ يستطيع أن يرى ويلمس مشاعر هذا الفنان المرهف الذى وجد نفسه بلا وطن، والذى فى يوم ما قيل له فى مطار باريس: أنت بلا جنسية وبالتالى لا يمكنك الدخول.
هذا الإنسان الذى حاول المقاومة والدفاع عن وطنه بالسلاح الوحيد الذى يملكه وهو سلاح الكلمة.
«(أنا ابنُ النيل - هذا الاسمُ يكفينى). ومنذُ اللحظةِ الأولى تُسَمِّى نفسَكَ (ابن النيل) كى تتجنَّبَ العَدَمَ الثقيلَ».
هذا ما قاله درويش بعد مجيئه إلى مصر، فبعد استقباله واحتضانه فى مصر من قبل كبار المثقفين والصحفيين آنذاك وعلى رأسهم الصحفيان الكبيران محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين الذى كان بمكانة الأب، وأيضًا علاقته بواحد من أهم الشعراء المصريين وهو صلاح جاهين الذى كان من أقرب الناس إليه.
ومن الصدف هو وجود شقته المطلة على نيل القاهرة، فى نفس البناية التى يسكن فيها الكاتب الكبير توفيق الحكيم، «وهى مصادفة، أربكت الاثنَيْن معًا عندما صَعدَا إلى البناية فى مصعد واحد».
هذه الألفة والحميمية والدفء الذى شعر به درويش فى القاهرة، جعلته يقول إنه ابن من أبناء هذا النيل الذى رآه، بل إن القاهرة ستكون من أهم محطاته، ولكن علينا أن نعرف كيف وصل درويش إلى القاهرة؟
قبل خروجه من الأراضى الفلسطينية المحتلَّة سنة ١٩٧٠، كان درويش قد نَشَرَ خمس مجموعات شِعْرِيَّة، وبعد فوزه بجائزة «اللوتس» التى يمنحها اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا فى ١٩٦٩، تصدر درويش أمام العالم صورة شعراء المقاومة.
ولكن قبل أن يصبح درويش رمزًا لشعراء المقاومة، نعرف أنه اتهم بالخيانة، «بعدما أعلنت الصحف عن أنه سيكون ضمن أعضاء الوفد الذى خَرَجَ من إسرائيل للمشاركة فى مؤتمر ومهرجان الشبيبة» عام ١٩٦٨. ومع الاتهام بالخيانة أصيب درويش باتهامات أخرى مثل الدجل وأن الأخطبوط الصهيونى تمكن من غسيل مخه كشاعر شاب آنذاك.
يقول درويش ليبرر ما جرى أو ربما ليصف مأساة الإنسان الذى وجد نفسه بلا وطن:
«مَنْ يعتبر قبولى الاشتراك مع وفد رَفَعَ العلم الإسرائيلى تُهمة، فإنَّه مَدعُوٌّ لأن يكون منطقيًّا حتَّى النهاية، عليه أيضًا أن يعتبر وجودى فى إسرائيل تهمة، أنا لستُ مذنبًا، لأنى أحمل هُوِيَّة إسرائيلية، إذ لا يمكن لى أن أعيش فى إسرائيل وأنا أُمزِّق العَلَمَ الإسرائيلى، فالمسألة، إذنْ، لها جانبان، إذا كنتُ أريد أن أتخلَّص من العَلَم الإسرائيلى وهو لعنة أُمَّتى، فأمامى سبيل واحدة هى؛ أن أغادر المكان الذى يرفرف فى سمائه هذا العَلَم، وهذا العَلَم يرفرف على كلِّ فلسطين فى الأرض المحتلَّة: فهل نطالب المواطنين الذين يعيشون فى الأراضى المحتلَّة بأن ينسحبوا من وطنهم هربًا من ظلِّ هذا العَلَم؟!».
وهناك حاول محمود التواصل مع أعضاء الوفد المصرى، ولكن طلبه قوبل بالرفض، «عانى درويش الكثير خلال أيَّام المؤتمر بسبب ما شاع عن (جنسيته الإسرائيلية)».
وبعد عودة درويش إلى وطنه المحتل تم اعتقاله منزليًا بواسطة الشرطة الإسرائيلية وأصبح عليه ألا يغادر حيفا وأن «يُثْبتَ وجوده فى مركز الشرطة فى الساعة الرابعة من عصر كل يوم».
وفى نفس العام أى ١٩٦٨، رفض عبدالناصر محاولات الصلح الإسرائيلية، والتى رآها خطة لعزل مصر عن العرب، حيث قال ناصر «الأمريكان واليهود ضربونا فى ٦٧ علشان يساومونا بيها على عروبتنا وعلى شرفنا وعلى قوميتنا».
وحسب رواية موجودة داخل الكتاب، تقول إن عبدالناصر قدم دعوة لمحمود درويش للإقامة فى مصر، وذلك بعد أن تقابلا فى موسكو عام ١٩٧٠ بعدما رفعت الإقامة الجبرية عن درويش، سأله عبدالناصر: ماذا تفعل هنا فى الثلج؟ فأجاب: بسبب أوراقى الإسرائيلية، لا أستطيع الذهاب إلى أى بلد عربى. بعد ذلك أرسلت مصر له جوازَ سَفَر دبلوماسيًّا مصريًّا، وهكذا تيسَّر له الانتقال إلى القاهرة بترتيبات استثنائية.
وبحسب الرواية.. «أعطى عبدالناصر الأوامر بأن يُعامَل درويش، الذى لم يكن تجاوز عامه الثلاثين مثل أكبر المثقَّفين» ولولا هذه الالتفاتة التى قدَّمها عبدالناصر ما تمكَّن درويش من التواصل مع العالم العربى، ومواصلة رحلة الخروج من إسرائيل».
ربما ولذلك نجد أن إيمان وحب درويش لناصر كان صادقًا للغاية، حيث كتب قصيدة «الرجل ذو الظِّلِّ الأخضر»، وهى واحدة من أكثر مرثيَّات جمال عبدالناصر تأثيرًا وجماهيرية: نعيشُ معكْ.. نسيرُ معكْ.. نجوعُ معكْ.. وحين تموت نحاولُ ألَّا نموتَ معكْ.. ولكنْ، لماذا تموتُ؟.
ومن مصر أصبح درويش سفيرًا للقضية الفلسطينية، ولكننا نراه يقول فى تصريح له يصف حجم الآمال التى أصبحت معلقة عليه وهو مجرد فنان أو شاعر: «أرجو أن أنسحب من هذه الأضواء المبالغ فيها، أنا لستُ سياسيًّا محترفًا، كما صوَّرتْنى بعض الصُّحُف العربية فى الأسابيع الأخيرة إلى درجة المبالغة، وإلى حَدِّ مطالبتى بحَمْل كلِّ القضية الفلسطينية».
فى كل الأحوال وجد درويش فى مصر مراده، لم يصدق أنه يعيش فى مدينة كل من بها يتحدثون العربية، استنكر الإسرائيليون إقامة محمود فى مصر، ولكن محمود أخذ يكتب ويكتب، سواء القصائد أو المقالات التى قدم فيها رؤيته وشعوره تجاه وطنه المحتل، فى أحد المقالات نراه يطالب بضرورة ألا يستهين العرب بإسرائيل وقوتها، وأن السبيل الوحيد للانتصار على هذا العدو هو العلم والتحليل العلمى لمقدرات العدو وعدم تسلل أفكاره إلينا.
وفى مقال آخر نُشر فى جريدة المصور فى أبريل ١٩٧١، وصف درويش شعوره بصدق حقيقى قائلًا:
«إن الذين ينهشون لحم بلادى هم الذين ينهشون لحمى، وهم الذين يحاولون عرقلة الخُطى العاندة، ولكن المسيرة أقوى والحقيقة أكثر سطوعًا وتوهُّجًا من قنابل الغبار المسيلة للقَرَف».