حول المشهد الضريبى الأخير!
(1)
فى نهايات التسعينيات وفى مأمورية ضرائب أسوان وأثناء تقديمى الإقرار الضريبى فى صورته البدائية الأولى، رأيت هذه الواقعة..طبيب أ.... كان وقتها مشهورًا جدًا وكنتُ أحد مرتادى عيادته يجادل الموظف فى عدد الكشوفات اليومية، فهو يريد وضع كشف واحد يوميًا باستثناء أيام الأعياد والسفر، بينما يصر الموظف على جعلها حالة يومية بعدد أيام السنة...
وكان عدد الحالات عند هذا الطبيب والتى رأيتها كثيرًا بنفسى لا يقل عن عشرين حالة فى فترة الظهيرة وأكثر منها فى الفترة المسائية!
فى الصعيد الجوانى، بعض الجرائم الجنائية الكبرى - خاصة الثأر والمخدرات - لها أسماء محددة من المحامين الذين يترافعون عنها ويتم استقدامهم من القاهرة وتبدأ تكلفة أى أتعاب من رقم واحد أمامه ستة أصفار لا تدخل فى أى مستندات رسمية!
فى قطاع السياحة.. آلاف الخرتية الذين يجنون أموالًا طائلة بالعملة الصعبة من السائحين بلا أى مستندات ودون أى التزامات للدولة.. مليارات الجنيهات يتم التعامل بها بين بعض الشركات وبعض محلات العاديات دون أن تدخل فى منظومة الدولة المالية... عشرات الآلاف من المستفيدين من المهن القائمة على صناعة السياحة ولا يوجد لهم أى بيانات عن دخولهم الحقيقية!
فى القطاع التعليمى، يحصل بعض الأفراد - فى منظومة الدروس الخصوصية - على مليارات الجنيهات سنويًا دون أن يكون للدولة أى آلية للاقتراب منها!
فى العصر الذهبى للفساد كانت هناك حالة استمراء وتقبل جماعى لفكرة إبعاد الدخول الحقيقية عن ملفات الضرائب.
وكان هناك اعتقاد بعدالة الفكرة استنادًا إلى ما يراه المجتمع من (فساد بعض الكبار)، فكان شائعًا الاعتقاد بأن كل مواطن من حقه أن يختطف ما يقدر على اختطافه، حتى كانت النتيجة ما وصلت إليه مصر حين كانت فى موقع متقدم فى قوائم الدول الأقل شفافية والأكثر فسادًا!
(2)
فى الجمهورية الجديدة أعلن الرئيس هدفًا محددًا، وهو أن تبقى مصر دولة بمعناها الحقيقي القانونى، بما يعنى أن يفى كل طرف فى منظومة الدولة بالتزاماته كاملة. ربما لم يستوعب البعض أن هذا الهدف يعنى أن تتغير المنظومة المالية تغييرًا جذريًا، وأن يتم وضع نهاية للاقتصاد الموازى الخارج عن المنظومة الرسمية.
أى أن تكون هناك شفافية كاملة فى الدخول الحقيقية للأفراد والمؤسسات، وأن يتم دفع ضرائب حقيقية عن تلك الدخول!
حين شرعت الدولة فى اتخاذ الإجراءات على الأرض التى من شأنها تحقيق هذا الهدف بات الصدام متوقعًا بين المنظومة القديمة والمنظمة الحديثة المنشودة، لأن تحقيق هذه المنظومة من شأنه كشف دخول كبرى كانت بمنأى عن الكشف، ومن شأنها كشف أى عمليات غسيل أموال أو أموال قذرة من تجارة مجرّمة!
السؤال: هل يريد المصريون حقيقة وبشكل جمعى تحويل بلادهم إلى دولة عصرية أم أنهم مصرون على بقاء الوضع على ما كان عليه فى أزهى عصور الفساد التى طالما انتقدوها؟!
نصف الإجابة محسوم تمامًا، وهو أن الدولة عازمة على السير قدمًا فيما بدأته لأنها ترى أنه الطريق الوحيد الذى من شأنه أن يخرج بمصر من كبوتها الحضارية.
فلا مجال لقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها مع عجزها عن ضبط منظومة الضرائب بشكل يقرب من الضبط الكامل.
أعلنت الدولة عن إنهاء اتفاق الشيطان بينها وبين مواطنيها والذى سيّر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى مصر لعقود ما بعد نصر أكتوبر، والذى توافق فيه الطرفان على تقاسم الفساد على جثة الوطن!
لذلك فالدولة فى السنوات القليلة الماضية قد أجابت عما يخصها من السؤال بشكل عملى على الارض عبر ما قدمته من مشاريع بنية وإصلاح واقتحام جميع الملفات المسكوت عنها واستعدادها للمساءلة الكاملة عما تقوم به!
أما نصف الإجابة الآخر فهو يخصنا نحن المواطنين أو الممولين!
فى كل دول العالم تجنح الشعوب إلى الحصول على أكبر قدر من الخدمات وتنتقد أداء حكوماتها فى مختلف الملفات خصوصًا الملفات الخدمية ومنظومة المرتبات والأجور.
لكن هذا الجنوح لا يمنح المواطنين رفاهية التهرب من التزاماتهم الضريبية. فهذه مسألة حسمتها الدول منذ عقود طويلة!
فى مصر ما زلنا- كممولين للضرائب- ندور فى فلك الشيزوفرينيا التى تجعل المواطن دائمًا فى موضع انتقاد لأداء الدولة وموضع المطالبة بتحسين الخدمات والحصول عليها بالمجان، لكنه فى نفس الوقت يرى أنه ليس من حق الدولة أن تطلع على دخله الحقيقي، وليس من حقها الحصول على نسبة عادلة من دخله الحقيقى للوفاء بما يطالبها به!
فأيهما على حق فى موقفه؟ النقابات المهنية التى تنتفض عقب كل إجراء من إجراءات الدولة الضريبية للدفاع عن أعضائها مما تسميه (الجباية)، أم الدولة التى ترى من حقها أن تضع يدها على الدخل الحقيقى لكل مواطن وأن تقتطع ما تراه هى عدلًا؟
(3)
لقد طالب الرئيس منذ أشهر نخبة المجتمع المصرى بمختلف تعددها أن تجلس وتقيم حوارًا وطنيًا مجتمعيًا يشمل كل الملفات التى من شأنها أن تؤسس لأسس راسخة للجمهورية الجديدة. أسس يشعر معها المصريون بالعدل والانتماء والهوية.
وهو ما شرعت فيه مصر بالفعل برعاية الأكاديمية الوطنية للتدريب. وكان من المفترض أن يكون الملف الاقتصادى حاضرًا بقوة ومن مفردات هذا الملف هو السياسة الضريبية العادلة الشفافة.
فهل قامت وزارة المالية- ممثلة فى مصلحة الضرائب- بالتواجد فى هذا الحوار؟ وهل قامت بطرح رؤيتها وآليات تطبيقها بما يراعى الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التى يمر بها المصريون حاليًا؟!
وهل مثلًا طلبت عقد جلسات استماع ومناقشة لممثلى المهن الحرة المختلفة حتى تتعرف الوزارة أو مصلحة الضرائب على طبيعة كل مهنة على حدة قبل اتخاذ حزمة الإجراءات التى تتناسب معها؟! وهل حضّرت المجتمع المصرى عقليًا لتطبيق الإجراءات التى من شأنها الوصول للهدف الأسمى وهو تقنين جميع الدخول المصرية؟ وهل من الكياسة التعاطى مع تلك القضية بالغة الخطورة بمنطق الصدمة وفرض الأمر الواقع ودفع الأمور فى اتجاه تصادمى مع قطاعات كبيرة من المجتمع المصرى دون سابق تجهيز مجتمعى؟! بل هل قامت المصلحة - عبر خبرائها - ببحث حقيقى لمختلف الفئات قبل اتخاذ إجراءات تتماشى مع طبيعة كل مهنة ومدى ثباتها أو موسميتها مثلًا؟!
فقطاع السياحة على سبيل المثال كان فى حالة موت إكلينيكى لمدة سنوات، ولم تساند الدولة هذا القطاع بسبب ما كانت تواجهه من تحديات، مما أدى إلى انهيار بعض أعمدته من مؤسسات وشركات وأفراد بعد توقف دخولهم تمامًا مع عدم توقف التزاماتهم المالية الشخصية والأسرية والإدارية!
فلا يمكن الحكم على القطاع بشكل حقيقى من طفرة هذا الموسم دون الوضع فى الاعتبار قوائم المديونيات فى السنوات السابقة!
ولا يمكن أن يتساوى من يقوم صباحًا مثلًا بفتح محله التجارى بمن ينتظر مكالمة تليفونية لاستئجاره للعمل يومًا أو يومين! فأحدهما يملك فرصة عمله بينما الآخر لا يملكها!
يدعو الرئيس دائمًا إلى القيام (بحوار مجتمعى) قبل اتخاذ قرارات حاسمة تمس منظومة حياة الناس حتى لا نسمح باستغلال أى قرار لبث الشائعات فى المجتمع المصرى خاصة مع ما نعلمه جميعًا عن تربص المتربصين بمصر!
ربما كان من الكياسة وتشجيع المجتمع للانخراط فى منظومة ضريبية حقيقية أن تقدم الدولة بعض الإجراءات التحفيزية الاستثنائية مثل عدم تحميل الأفراد تكلفة التحول ذاته! لو فعلت ذلك لأجهضت محاولات رفض المنظومة ولما منحت للرافضين قميص عثمان الذى يروجونه بين الآخرين!
إن أى مواطن يتوق لرؤية بلاده فى موضع أفضل لا يمكنه أن يقف فى موقف رفض لإجراءات ضريبية عادلة، لكن تلك الإجراءات يجب أن تكون عادلة فعليًا. والعدل هنا أن تتم دراسة طبيعة كل مهنة دراسة واقعية قبل إثقال عاتق أصحابها بالتزامات قد يعجزون عنها إن عجزوا عن العمل!
لماذا تصر بعض الإدارات الحكومية على تكرار نفس الخطأ مرات عدة؟! وهو خطأ اتخاذ القرار أولًا ثم محاولة معالجته والقيام بجلسات استماع يتضح بعضها عدم صواب كل أو بعض بنود القرار، فتضطر تلك الإدارة إلى تأجيله أو إلغائه بعد أن تكون قد منحت الفرصة للمتربصين بنشر مزيد من الإشاعات؟!
ولماذا لا تدرك بعض الإدارات الحكومية البعد السياسى الجماهيرى لما تمر به مصر من تغييرات؟ لماذا لا يخرج بعض القيادات الكبرى لبعض الوزارات خارج القالب الوظيفى الجامد قليلًا ويكتسبون بعض مهارات مخاطبة الجماهير بشكل يدرك ويستوعب الأبعاد الوطنية لما تطمح إليه الدولة؟ بمعنى أن تدرك كل قيادة أنها تقوم بدور وطنى فى مرحلة مفصلية من تاريخ مصر المعاصر يفوق الإطار الوظيفى؟! وتدرك كيفية تمهيد الأرض أولًا قبل بذر البذور؟!
(4)
إن الحديث عما ينبغى أن تقوم به مصلحة الضرائب قبل اتخاذ قرارات بعينها لا يعنى صواب وجهة نظر بعض النقابات المهنية فى موقفها الأخير!
ففكرة الضغط على الدولة من أجل إبقاء الأوضاع الضريبية على حالها فكرة بلا مستقبل فى مصر التى نريدها!
نريد دولة حقيقية لا يدفع المواطن فيها أموالًا لمواطن آخر خفية بدون أى مستند حتى يحصل المواطن على حماية الدولة قبل أن تحصل الدولة على حقها فى تلك الأموال!
إن موقف بعض النقابات فى المشهد الأخير كان موقفًا نفعيًا بامتياز، موقفًا يدافع عن منظومة فاسدة وغير منطقية وغير عادلة ولن تستمر على المدى البعيد مهما كان موقف الرفض!
إن النفس الإنسانية بطبيعتها تجنح للحصول على أكبر قدر من النفع والمكتسبات وإلى التململ والتهرب من الالتزامات، ولو تم ترك الأمر للنفس ونوازعها لما دفع مواطن ضريبة فى أى دولة!
لذلك فمن حق الدول- بل من أسس قيامها- أن تسن من القوانين وتصدر من الإجراءات ما يروض تلك الرغبات الجامحة!
ولا يصبح مع هذا الحق منطقيًا أن يكون رفض أو قبول المجتمع هو المحرك الأوحد للقرارات الحكومية فى أى بلد، لأن هناك محركات أخرى على رأسها بناء الدول ذاتها!
الأيام الماضية شهدت فعاليات ضغط على الدولة لتغيير قرارات ضريبية معينة، وقامت الدولة بالفعل بالاستجابة وتأجيل بعضها عدة أشهر. وهذه خطوة محمودة تحسب للإدارة.. لكن عليها أن تقوم بحملة توعية جماهيرية بأسلوب مبسط حتى يفهم المصريون ماذا يحدث..
يجب أن تقدم للناس شرحًا مبسطًا فى أن القضية تتلخص فى هدف واحد.. كشف الدخل الحقيقى لكل مواطن بشكل عادل لا يظلمه ولا يمنع الدولة حقها!
كما يجب أن تعيد دراسة جوانب قراراتها جيدًا قبل إعلان تطبيقها حتى لا تضطر لهذا الموقف مرة أخرى.
والدراسة يجب أن تكون قانونية ودستورية للوقوف على مدى توافق أى إجراء مع الدستور المصرى وقانون الإجراءات.
ودراسة واقعية ترى واقع المجتمع المصرى وتراعى جوانبه الاجتماعية وطبيعة المهن المختلفة ولا تتخذ قرارًا واحدًا تلزم به أطياف لا علاقة بين طبيعة مهنة أحدهم ومهنة الآخر!
لأن ما حدث هو أن استقطبت نقابات مهنية معينة أعضاء نقابات أخرى لم يتم استهدافهم بالقرار!
كان يمكن تجنب هذا اللغط الضريبى لو أن الأمر سار بطريقة منطقية..اجتماعات تمهيدية بين ممثلى كل مهنة على حدة وممثلى مصلحة الضرائب لمناقشة التفاصيل التى يهوى الشيطان المكوث بها!