(غزال البر) 2
رموز.. وجنائز!
ما زلنا في النصف الأول من القرن العشرين، وما زال الحديث عن مراسم تشييع الرموز الوطنية والسياسية والفنية في تلك الفترة التاريخية المهمة، فتناولنا في المقال السابق الحديث عن جنازتي الزعيم مصطفى كامل الذي شُيع مرتين، والزعيم محمد فريد الذي شُيع خمس مرات، بتفاصيل وأحداث وظروف كل مرة منهما.
وقبل الوصول لمراسم تشييع زعيم الأمة سعد باشا زغلول، صاحب أول جنازة مليونية في تاريخ مصر الحديث، كان لا بد من التوقف عند جنازة بطل مهم سيتوقف أمام اسمه التاريخ وهو إبراهيم الورداني المصري المسيحي الذي تطوع لقتل بطرس غالي، رئيس وزراء مصر في تلك الفترة، أما من هو بطرس غالي لمن لا يعرفه فهو ابن قرية الميمون بمحافظة بني سويف وولد عام 1846، وكان والده غالي بك نيروز ناظرًا للدائرة السنية لشقيق الخديو إسماعيل في الصعيد، وكان هذا المنصب سبب الإنعام على تلك الأسرة بالبكوية ثم الباشوية ثم تقلد المناصب العليا فى مصر الخديوية.
في البداية كان بطرس غالي من المؤيدين لموقف الزعيم أحمد عرابي من الخديو توفيق، وهو موقف يحسب له عكس موقف أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كان ضد عرابي في البداية وله قصائد ذم وهجاء في الزعيم المصري.
وكانت بداية بطرس غالي في تقديم خدماته لأحبائه الإنجليز بالتوقيع على اتفاقيتي الحكم الثنائي للسودان في 19 يناير عام 1899 بالنيابة عن الحكومة المصرية باعتباره وزير خارجيتها، فيما وقّع من الجانب الإنجليزي اللورد كرومر الحاكم العسكري للحكومة الإنجليزية، وبموجب تلك الاتفاقية أصبح للإنجليز رسميًا حق الاشتراك في إدارة شئون الحكم بالسودان، ورفع العلم الإنجليزي إلى جانب العلم المصري، وتعيين حاكم عام للسودان بناء على طلب الحكومة البريطانية، فأصبح المصريون غرباء عن السودان بلدهم الثاني.
كما ترأس بطرس غالي محكمة دنشواي التي أقامها الاحتلال الإنجليزىي لفلاحيها ظلماً وتجبرا ضد البسطاء، وحكم فيها بإعدام 6 فلاحين مصريين وأحكام أخرى، وبالمؤبد على عدد منهم، كما كان آخر مواقف بطرس غالي بصفته رئيس وزراء مصر هى الموافقة على مد امتياز قناة السويس 40 عاماً أخرى مقابل 4 ملايين جنيه، أي أن حق امتياز قناة السويس كان سيمتد حتى عام 2008، والحمد لله جاء أبناء الجيش العظيم ولم يمتد احتلال القناة لا لعام 2008 ولا حتى 1968 وتم استردادها كاملة بعد ملحمة 1956.
وكان إجماع الحركة الوطنية المصرية بضرورة اغتيال بطرس غالي، ويعد أول حادث اغتيال سياسي لشخصية مصرية يقع فى العصر الحديث، وهنا نتوقف عند شخصية قاتل بطرس غالي، فكلنا يعرف أغنية "قولوا لعين الشمس ما تحماشي لحسن حبيبي صابح ماشي"، التى غنتها شادية وكتبها الشاعر الغائي مجدى نجيب ولحنها بليغ حمدى عام 1966، لكن أصل الأغنية يعود إلى ليلة 18 يونيو عام 1910، وهى ليلة تنفيذ حكم الإعدام في حق الصيدلي الشاب إبراهيم الوردانى، ويعود أصل كلماتها للتراث الشعبي، وكانت تغينها مطربة ذلك العصر العالمة والأسطى "نعيمة شخلع" التي كانت تعد واحدة من أشهر أسطوات شارع عماد الدين، وتقول كلماتها الأصلية "قولوا لعين الشمس ما تحماشي، أحسن غزال البر صابح ماشي"، والغزال هنا هو البطل إبراهيم الورداني، وكان لحنا بكائياً يليق بوداع البطل الذي كان من جيل الأوائل الذين درسوا الصيدلة في سويسرا ولم يكمل عامة الرابع والعشرين والمستقبل أمامه مشرقاً ولكنه تطوع بمنتهى الوعي والوطنية لاغتيال بطرس غالي حتى لا تحدث فتنة طائفية بين جموع المصريين إذا قام باغتياله شاب آخر يكون مسلماً.. الغريب أن المدعى العام وقتها، الذي طالب بإعدام الورداني، هو عبدالخالق باشا ثروت الذي كان صاحب الفضل في صدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي بموجبه أنهيت الحماية البريطانية عن مصر، وأن محاميه هو المفكر والفيلسوف المصري أحمد لطفي السيد الملقب بأستاذ الجيل، بينما كان القاضي إنجليزى اسمه "دولبروجلي"، وقد رفض مفتي الديار المصرية الشيخ بكرى الصدفي التصديق على حكم الإعدام، فأصدرت المحكمة حكمها دون موافقة المفتي لأول مرة في التاريخ، وقررت الحكومة وقتها منع رفع صور الورداني أو الاحتفاظ بها، وظل القرار سارياً حتى قيام ثورة 23 يوليو المجيدة.. رحم الله إبراهيم الورداني.. وللحديث بقية.