الرحلة المقدسة.. انتصار جديد للثقافة المصرية
فى سطور قليلة نشرنا الخبر منقولًا عن بيان موجز لوزارة الثقافة.. رحلة العائلة المقدسة فى اليونسكو.. لم يفرح أحد.. وكأن لا شىء يحدث.. جهد سنوات بذلته الخارجية المصرية مع الثقافة مع المهتمين بالمجال لم يشعر به أحد.. يبدو أنه فى زحمة كأس العالم يصبح الكلام عن الثقافة عبثًا.. نعم هو كذلك.
لكن الأمر هذه المرة ليس فعلًا ثقافيًا باهرًا فقط.. بل هو فعل إنسانى بالأساس.. ليس مجرد توثيق لرحلة عبر عدد من القرى والمدن المصرية.. يقول صاحبى: لقد نجحنا من قبل فى تسجيل الأراجوز والسيرة الهلالية والنخلة.. والتحطيب.. فماذا جرى؟.. هذا العالم يتجه بنا نحو قيم ومعادلات أخرى ليس من بينها ما حدث.
حالة من الإحباط الشديد انتابتنى لثلاثة أيام بعد إعلان نجاح وفد مصر فى المغرب فى الحصول على موافقة اليونسكو على إدراج رحلة العائلة المقدسة فى سجلات التراث اللا مادى.. ويبدو أننى كنت حالمًا ومجنونًا أن تخيلت أن الجالسين على المقهى يقفزون من الفرح بعد كل لعبة لميسى أو كريستيانو سيعنيهم الأمر.. لم أكن حالمًا لكننى تصورت أن أهل الثقافة والمعنيين بالتراث القبطى فى بلادنا على الأقل سيبتهجون وستنتقل عدوى هذا الفرح إلى غيرهم فنفرح.. لكن شيئًا من هذا لم يحدث.. وأظن أنه لن يحدث.
تقول الحكاية إن السيدة مريم العذراء لما هربت من فلسطين عبرت إلى سيناء ومنها إلى الفرما ثم إلى بلبيس وتل بسطا وكفرالشيخ ثم الدلتا ومنها إلى وادى النطرون.. ومنها إلى مدن أخرى حتى المطرية ومنها لمصر القديمة.. وعند المرسى فى المعادى.. عدت بوليدها ثم غادرت للصعيد حتى وصلت إلى جبل الطير فى درنكة.. رحلة امتدت لثلاث سنوات حتى زال الخطر الذى كان يهددها والنبى عيسى فعادت إلى فلسطين.. مسار الرحلة احتفى به أهل مصر.. وفى كل مكان حلّت به القدم الشريفة صارت هناك قصة نحتفى بها ونقيم لها الاحتفالات مرتين كل سنة.. مصر التى تصل الآن ما انقطع مع حضارتها بكل تجلياتها.. مع منجزها الحضارى بكل أشكاله.. لا تتوقف عن السعى حتى تستكمل ما أنجزته منذ زمن.. ليس مطلوبًا أن نبهر العالم.. لكن وجب على الأقل أن يعرف الذين يصنعون الحروب فى أطراف هذا العالم ويشعلون الحريق فى أركانه ماذا نفعل.
هذه الرحلة ليست تراثًا قبطيًا.. فالمسلمون فى مصر يحتفون بها ويشاركون فى احتفالاتها باعتبارها فعلًا مصريًا بالأساس.. واحتفالهم بها احتفال بمصريتهم إضافة إلى كونه احتفالًا برحلة النبى الذى يؤمنون به وبالعدرا التى يقسمون بها على اختلاف أديانهم ومذاهبهم.
ربما لا ننتبه اليوم إلى أهمية ذلك الأمر لكننا غدًا بالقطع سنفعل.. عندما يكتمل ما يجرى فى سانت كاترين.. وفى القاهرة الفاطمية.. وفى الهرم والمتحف الكبير، ربما ننتبه.. عندما يكتمل مشروع تطوير التعليم.. ربما ننتبه.
أعرف أن الناس فى شوارعنا، وفى ريفنا، يضربها الكثير من الحيرة.. تحاصرها متاعب الاقتصاد.. يشغلها ذلك العبث الذى يحدث فى أسواق الذهب والسيارات وغيرها مما تراه غريبًا وغير مفهوم.. ربما يشغلنا جميعًا أمر تدبير لقمة عيش.. أو سرير إفاقة يحتاجه مريض فى مستشفى بعيد فى الصعيد أو قويسنا.. جميعنا مشغولون.. ومنهكون.. لكن إحدى أهم وسائل المقاومة للعبور إلى ما هو أفضل جميعها تمر عبر ذلك الطريق.. طريق تمسكنا بهويتنا.. وهذه الرحلة بكل ما تعنيه قطعًا هى جزء أصيل من عناوين هذه الهوية.