أخطر ما غيره رجال الدين فى العقل المصرى الجمعى!
(1)
يعتقد بعضنا أن الإرهاب المسلح القائم على فكرة دينية متطرفة هو أخطر ما تتعرض له المجتمعات مثل المجتمع المصرى. لكننى أعتقد أن هناك ما هو أسوأ وأخطر من هذا الإرهاب المسلح بكثير!
فالإرهاب المسلح يمكن مواجهته على الأرض ودحره وهزيمته فى فترة زمنية محدودة تتوقف على مفردات وقوة أجهزة بذاتها وتوفر الإرادة، تماما كأى معركة مسلحة. لكن نجاح أى مجموعات دينية متطرفة أو رجال دين فى تغيير فكرة أو مجموعة أفكار فى العقل الجمعى للمجتمع هو الأخطر!
هو أخطر من حيث تأثيره على تفاصيل حياة هذا المجتمع، وتماسكه أو خلخلته وتقدمه أو تخلفه، وهو الأخطر من حيث المدى الزمنى الذى سيبقى خلاله هذا التأثير، والمدى الزمنى الذى ستتطلبه مقاومة هذا التأثير وإعادة (فرمتة) العقل الجمعى مرة أخرى!
وتتوقف درجة الخطورة حسب ماهية التغيير العقلى الذى تم، فقد يتعلق بملفات اقتصاد دولة، أو تحديد علاقة الفرد بالآخرين أو علاقته بالدولة، أو رؤية المجتمع العامة لبعض المهن والحرف أو بعض الفنون.
وفى الحالة المصرية، فإن أسوأ وأخطر ما غيره رجال الدين عقليا فى قطاعات كبيرة من المصريين هو كل ما يتعلق بفكرة القوانين الحاكمة للمجتمع ووضعها - فى مواضع ومواقف شديدة الخطورة - فى مواجهة وتضاد مع الدين!
فكثيرٌ من المصريين اليوم يرون أن ما تجرمه القوانين الحاكمة ليس بالضرورة أن يكون حراما دينيا حرمه الله! والعكس صحيح!
وبناءً على ذلك فلا يرون أى تجاوز أخلاقى أو ضميرى فى التحايل على تلك القوانين - خاصة إن كان فى ذلك التحايل منافع شخصية لهم – أو فى مخالفتها إن استطاعوا ذلك خفية أو جهرا!
بل يتجاوز الأمر أحيانا هذا السلوك إلى ما هو أخطر، حين يعتقدون أن بعض تلك القوانين مخالفة ومعارضة لما يؤمنون أنه – بناء على ما أقنعهم به رجال الدين – مستحب دينيا مثلا، فيعتبرون تحايلهم على تلك القوانين ومخالفتها وكأنه جهاد دينى يُثابون عليه!
(2)
بدأ الأمر بتدشين مصطلح (قوانين وضعية) لتكون فى مقابلة (القوانين الشرعية) أو التى تتفق حسب وجهة نظرهم مع الشريعة الإسلامية!
ثم تحت هذا العنوان العريض - الذى بدأ أولا موجها لمسائل مقصود بها المزايدات السياسية – انطلقت تلك الفكرة لتسيطر على طريقة تحديد مصريين كُثر لمواقفهم من قضايا عديدة، ولا يتحرجون من إعلان رأيهم بصراحة متكئين على ادعاء التمسك بالقوانين الشرعية السليمة!
لذلك نجحت المنظومة الدينية الكلية فى مصر فى خلق حالة ازدواجية عقلية بين القانون وبين الدين! ونجحت فى خلق حالة عداء بينهما! وأخيرا نجحت فى استقطاب ملايين العقول المصرية ودفعهم - عبر الإلحاح الخطابى - إلى الاستهانة بفكرة القانون ووضعها دائمًا فى محك التقييم الدينى ومنح حق التقييم هذا لرجال الدين!
ولم يتوقف أحدٌ مثلا أمام حقيقة وجود عشرات الآلاف من المفردات والمستجدات التى يلزم سن قوانين معاصرة لها، وأن وضع تلك القوانين فى مواجهة الدين يعنى فتح الباب على مصراعيه أمام شرعنة مخالفة الأفراد لها وأمام استشراء الفوضى القانونية والمجتمعية!
وأن المسلمين الأوائل قد قاموا بذلك بالفعل – سن قوانين - دون أن يتم اتهامهم فى عقيدتهم! حيث كانت مجالس القضاة فى ربوع مدن إمبراطورية الخلافة - ومنذ السنوات الأولى لتكوينها – تصدر أحكاما واجبة النفاذ بناء على رؤية القضاة البشرية فى قضايا ونزاعات مستجدة!
وحيث كانت أوامر بعض الخلفاء والولاة تعتبر فى حد ذاتها أمرا نافذا وقتيا، وتشريعا لاحقا لمن بعده (مراجعة كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم وكتاب الأحكام السلطانية للمواردى)!
والفارق الوحيد بين ما فعلوه قديما وهم آمنون من أى اتهامات وبين ما تفعله مجالس التشريع المعاصرة ويتم اتهامها بالتشريع بما يخالف شرع الله، أن المسلمين الأوائل كانوا يشرّعون وقتيا فى صورة حكمٍ للقاضى أو أمرٍ للخليفة ثم يتم التنفيذ أيضا فورا!
بينما الآن ولأسبابٍ إدارية لتنظيم حياة الناس، يتم أولا إصدار القوانين بعد مناقشات طويلة فى المجالس النيابية، ثم يتم توثيقها قبل أن يتم تطبيقها فعليا.
أى أن قوانينا العصرية ربما تتحقق فيها (الشورى) أكثر من تحققها فى سنوات الخلافة المبكرة التى كان فردٌ واحد – هو قاضى القضاة أو الخليفة أو الوالى – يملك حق التشريع والتطبيق الفوريّيَن!
(3)
يمكن استعراض بعض وأشهر القضايا التى اتخذ كثيرٌ من المصريين خلالها موقفا من بعض الأفعال والممارسات بناءً على فكرة الاستحلال الدينى رغم تجريم القانون لتلك الممارسات.
تتربع على رأس القائمة – من حيث الشهرة واقتناع كثير من المصريين بها، وخطورة التأثير، وعِظَم المقابل المادى الذى يحصل عليه المستحلّون – التجارة فى الآثار المصرية القديمة!
يجرّم القانون المصرى هذه التجارة لأسباب كثيرة منها، النص الدستورى القائل بامتلاك المواطن لما فوق الأرض من مبانٍ وامتلاك الدولة مجتمعة أي كنوز أو ثروات فى باطن الأرض، وحماية حقوق الأمة المصرية فى الحفاظ على إرثها، وحماية العائد الاقتصادى المتعاظم مع تعاظم المكتشفات الجديدة، وحماية التاريخ المصرى من أى تزوير أو تحريف يمكن اقترافه بالعبث فى أى آثار حديثة الاكتشاف!
رغم ذلك التجريم فقطاعات جماهيرية كبيرة تعتنق فكرة استحلال هذه التجارة استنادا إلى ما يمكن وصفه (فتاوى دينية سرية) يخشى أصحابها مواجهة عقاب قانونى أو مجتمعى إذا ما جاهروا بفتاواهم!
تقول الفتوى الدينية السرية إن نص القانون الوضعى غير ملزم شرعا للأفراد، وإن كل فرد يملك كل ما فى باطن أرضه، وإن هذا رزق خالص له من الله!
وتتكئ تلك الفتوى على اعتقاد بوثنية الحضارات القديمة ووجوب تبرؤ المصريين المعاصرين منها، ويتحاشون مناقشة فكرة الملكية المجتمعية الجماعية للتراث والثروات الطبيعية!
تقبع تحت نفس الفكرة – تحريم أى تجارة لا يحددها القانون المصرى – أفكارٌ اقتصادية وتجارية أخرى، منها ما هو دائم التجريم القانونى، ومنها ما هو مؤقت التجريم القانونى لأسباب اقتصادية إدارية!
مما كان مُجرَّما مؤقتا بالقانون لأسباب اقتصادية تنظيمية واستحله البعض هو بيع وتوزيع أسماك بحيرة ناصر خارج النطاق الحكومى، حيث راج ما يسمى بتهريب الأسماك عبر الدروب الجبلية الوعرة ونشأت ما تشبه مافيا استخدمت أحيانا فى تجارتها الأسلحة ضد رجال الشرطة!
ومما يعتبر مجرّمًا بصفة دائمة لأنه سرقة صريحة لموارد عامة ما يسمى بنشاط وتجارة (الدهّابة) فى الصحراء الشرقية، والذى قام به أولا بعض أهالى قرى معينة من بعض محافظات الوجه القبلى اقتناعا باستحلالها، قبل أن تسيطر عليها مافيات مصرية انضم إليها حاليا بعض أفراد العصابات إفريقية الجنسية!
ويندرج تحت هذا العنوان استحلال أراضى الدولة، واستحلال سرقة الخدمات التى تقدمها المرافق الحكومية مثل الكهرباء والغاز!
لقد عبث رجال الدين كثيرًا فى العقل الجمعى المصرى فيما يخص ملف الاقتصاد منذ نهاية السبعينيات وحتى الآن. ومن أشهر ما نجحوا فيه هو تغيير موقف المصريين الجماعية من التعاملات البنكية وتوجيه مدخراتهم لمنافذ غير آمنة وحرمان الاقتصاد المصرى من تلك المدخرات!
هذه المأساة التى استمرت منذ شركات الريان والسعد وحتى ظاهرة (المستريح) والتى كُشِفت أحدث حلقاتها فى محافظة أسوان!
والجديد فى القصة الأخيرة أن بعض رجال الدين المسيحى – بأحد المراكز الكبرى بالمحافظة – قد تورطوا فى توجيه المواطنين للإلقاء بأموالهم بين أيدى هؤلاء، ناظرين فقط لوهم الأرباح الكبرى، دون أن ينتبهوا أنهم – بخلاف تغريرهم بالناس استغلالا للثقة – يحرمون الاقتصاد المصرى من تدوير مبالغ مالية طائلة بطرق آمنة للناس ومفيدة للدولة!
(4)
إذا ما تركنا الملف الاقتصادى جانبا واتجهنا إلى الملفات الأخرى سنجدها جميعا قد مس قواعدها النظرية العقلية فى عقول الناس بعض الضر جراء السطو العقلى الذى قام به رجال الدين فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات تحديدًا.
فقوانين تجريم ختان الإناث تحديدا تم كثيرا التحايل عليها اعتقادا بجور تلك القوانين على الآداب والقواعد والأوامر الإسلامية!
ونجح رجال الدين بالفعل فى خلق حالة عداء ومواجهة بين قوانين تجريم الختان من جهة والاعتقاد بخروج تلك القوانين عن الإسلام من جهة أخرى!
ولقد تورط فى تلك المواجهة بعض الأطباء – الذين يمثل كثيرٌ منهم حالة تستحق التأمل فى خضوعهم عقليا لخطاب التطرف الدينى – مع بعض الأهالى، واستغرق الأمر بعض الوقت حتى يستوعب المصريون جمعيا وجهة نظر القانون وصوابها!
لا توجد قوانين تلزم المصريين بالخضوع الطبى لبرامج تنظيم الأسرة ، لكن كانت هناك دائما إجراءات وجهود، تم زرع حالة عداء لها بين المصريين استنادا على أرضية دينية!
الغريب فى الأمر هو أن الخطاب الدينى فشل تماما أو جبُن تمامًا عن الوقوف فى وجه بعض مظاهر القبلية المتعارضة كُليًا مع نصوص دينية قرآنية صريحة أو أحاديث ينسبونها للنبى (ص)، مثل ظاهرة الثأر، وظاهرة رفض تسليم ميراث الأرض الزراعية للإناث، وظاهرة زواج الأقارب رغم ثبوت أضرارها الطبية!
(5)
قطعا سيكون أمام عقل الدولة المصرية – ممثلا فى نخبتها الثقافية والإعلامية المخلصة، والمؤسسات الدينية الرسمية بعد إعادة ضبط أدائها – طريق عمل شاق طويل المدى لإعادة تصويب تلك الفكرة فى عقول المصريين!
فى السنوات الماضية سقطنا فى خطأ تشخيص العطب أو الخلل الذى أحدثه الخطاب الدينى فى العقل المصرى الجمعى، والذى كان هو المحرك لسلوك المصريين فى تلك الملفات السابق وصفها.
وترتب على خطأ التشخيص أننا بذلنا جهودا ضخمة فى محاولة علاج الأعراض الظاهرة نتيجة ذلك العطب!
علاج الأعراض لا يقضى على المرض، بل يستنزف طاقات الدول والنخب والمجتمعات..ربما تكمُن بعض تلك الأعراض وتنكمش على نفسها انتظارا لأى فرصة حتى تشب أكثر شراسة وحدة وتنشب مخالبها فى الجسد المجتمعى بشراهة!
لذلك فأنجح وأنجع الطرق هو أن يتوجه العلاج مباشرة وبأقصى تركيز لموضع العطب داخل العقل! أن نتوجه مباشرة لتفنيد الفكرة الرئيسية العامة، وبيان فسادها، وهى فكرة الاتفاق على معنى القانون، وأنه هو الإجماع العصرى الحقيقى كما قال مؤخرًا سعد الدين الهلالى!
أنْ نقدم للناس الأدلة التاريخية، والمنطقية، والنصية على فساد ذلك التنافر والتضاد بين القانون المعاصر وبين الدين!
أنْ نقدر على دحض الفكرة ذاتها فتتهافت داخل العقول.. ووقتها سيقوم أصحاب هذه العقول – من عوام الناس – هم دون غيرهم ومن تلقاء أنفسهم بمواجهة الأعراض ومحاربتها!
الدولة تخوض المعركة العقلية الكلية لهدم الأسس الفاسدة عقلًا ونصًا بعقول وألسنة نخبتها القادرة ثم تترك مهمة التخلص من الأعراض للناس أنفسهم!
ولدينا مشهدٌ يؤكد فاعلية هذه الطريقة للمواجهة، ويمكن اعتماده كأكبر وأقوى (بروفة) لإعادة المشهد من حيث الفكرة!
هذا المشهد هو دور عوام المصريين منذ اصطفافهم لانتخاب الجماعة الإرهابية لاعتقاد ملايين منهم بأن الجماعة تمثل صحيح الدين، ثم انكشاف الحقيقة وهتك الأستار أمامهم فى أقل من عام.. بعدها قامت بعض هذه الملايين من تلقاء نفسها بهدم هذا الوثن الشيطانى الذى لولاها ما تم نصبه فى فناء خريطة مصر!
نعم أنا أقولها بصراحة ووضوح....
علينا القيام بهدم كثيرٍ من الأسس التى تعايش معها المصريون لسنوات كأنها مسلمات دينية بينما يعلم كل من منحه الله نعمة القراءة والبحث أنها ليست مسلمات إنما أوهام!
أقنِعوا الناس بزيف هذه المسلمات المزعومة وضلالها إقناعا عقليا ومنطقيا ونصيا، ساعتها يسهل الطريق للقضاء على ما عانت منه مصر عقودا من أعراض المرض من تجاراتٍ حرام، وانتهاكات لحقوق البنات، وانفجار سكانى، وتحايل لمخالفة القوانين، والتهرب من التزامات الأفراد تجاه الدولة!
ضرب الفكرة الرئيسية ضربة قاتلة على رءوس الأشهاد – بفض الاشتباك العقلى الجمعى بين القانون والدين - فى خطب الجمعة وبرامج التليفزيون الثقافية والدينية، وفى المحافل الإعلامية الكبرى التى توافق الاحتفالات الدينية الكبيرة والتى تحضرها قيادات الدولة!