«ضريح أبى» والاصطدام بأسئلة مدينة طارق إمام
فى البداية يجب أن تستسلم لشروط هذا النص، الذى بداخله ستنسى كل ما تعرفه عن المنطق، وستصدق كل ما يقوله الكاتب أو الراوى، الذى هو بدوره إنسان هبط على مدينة وأرض عجيبة، وعالم غريب، يحاول أن ينجو فيه بالسؤال ولكنه وللأسف عالم مؤمن إيمانًا عميقًا «أن عذاب الإنسان يبدأ حين يسأل عما لا يجب أن يعرفه».
فى روايته «ضريح أبى» الصادرة فى طبعة جديدة عن دار الشروق للنشر، يغوص بل يتوه القارئ مع طارق إمام فى دوامات مدينته، التى لا تعترف بكل ما نعرفه عن الموجودات، فأنت أمام مدينة مرسومة ببراعة كلوحة، على تلك اللوحة ثمة أرض عليها ضريح عندما تشرق الشمس فوقه «يكون الظلام قد خيم على الطرف الآخر». وسماء لا نهائية تسبح فيها الأسرار، ومدينة على حدودها جبل الكحل وتفرض شروطها على كل قاطنيها، سواء بشرًا أو مسوخًا مشوهة.
من اللحظة الأولى يستسلم القارئ ويقع فى دوامات هذه المدينة سيصدق أن هناك فى الخلفية وليًا أو ساكن الضريح، والذى يمكن أن ينجب بعد موته بمئات السنين طفلًا من امرأة فقيرة، يدفع هذا الطفل ثمن ذنب لم يرتكبه، وخطيئة لم يفعلها. فيصبح محاصرًا بالوجود، وبالعدم، للدرجة التى يمكن أن يقبض فيها على شىء فلا يمسك سوى الفراغ، فهو محاصر بأقاويل لا نهاية لها، بل ومستسلم أيضًا لإرادة الأب.
«لقد اختار لى أبى أشياء كثيرة، لم يكن من بينها أن أرد على بريده الذى يسبح فى السماء المغلقة لصندوق النذور، دون أمل فى سماء أبعد. ربما فعلت ذلك رغمًا عن مشيئته التى لم أستطع أبدًا الوقوف عليها، لأرد على الناس نيابة عنه، بصوت قادم من الآخرة».
وهذه الأمانة التى حملها هذا الإنسان، جعلته يدرك كل شىء، كل الأسرار المحفوظة فى صدور الناس، والأفكار المكمونة فى العقول، والفضائح التى يكتبها زوار الضريح أملًا فى السماح أو الغفران أو القرب، باختصار أكثر أصبح هذا الإنسان يعرف «كل سر فى المدينة ولا أحد يعلم عنى شيئًا».
وبالتالى ودون إرادته أصبح هذا الإنسان، هو السبيل الوحيد الذى يطمئن من خلاله الآخر عن العالم الثانى، الذى لا يعرفه أحد، «دون أن أقصد صرت الشخص الوحيد فى هذه المدينة الذى يطمئن الناس من خلاله على آخرتهم».
من ثم يخوض القارئ مع هذا الإنسان تلك الرحلة العجيبة، التى يمكن أن تكون رحلة كل إنسان على الأرض، الإنسان الذى يعيش وسط «أناس مستعدين لتصديق أى شىء لإرجاء الموت قليلًا». ليواجه القارئ مع بطل الرواية الأسئلة وعلامات الاستفهام التى لا بد من مواجهتها، بل يشارك القارئ بطل الرواية فى كتابة روايته، تلك الرواية التى لا يمكن أن تنتهى لأنها رواية الجميع، ولذلك يقول عنها «الرواية التى تبقت فيها صفحة بيضاء ما زلت عاجزًا عن كتابة نهايتى فيها».
ومن ثم ومع الغوص فى أعماق هذا العالم يبدأ القارئ قبل الراوى فى تفسير ظواهر تلك الأرض التى هبط عليها، وفى تفسير الأشخاص من حوله فيرى أن سكان المدينة أو الأرض منعزلون، كل شخص يعيش فى واديه وفى زمنه الخاص الذى صنعه وبالتالى «كل شخص متأكد من أن الخطأ ليس عنده، عاش كل شخص فى توقيته الخاص، بدأوا فى زمنه الذى لا يشبه أزمنة الآخرين، صار من الممكن أن يقنع شخص نفسه بأنه فى الليل رغم أن الشمس تتوسط السماء، وأن يعتقد آخر أنه يرى أضواء النهار بينما تغرق الدنيا فى الحلكة».
كل هذه الأجواء العجيبة إذا كان لا بد أن تدفع الإنسان تجاه شىء، فستدفعه نحو الخرافة التى سيستسلم لها استسلامًا تامًا «دائمًا ما تساءلت كيف ظل الناس فى بلدتنا يستسلمون لكل أنواع الخداع الواضحة كالشمس، والمكررة ككل يوم، مرة بعد أخرى، وجيلًا بعد جيل، كأنهم يدمنون نوعًا غامضًا من التمثيل بأنفسهم».
أنت هنا أمام عالم ساحر يقدم من خلاله الكاتب طارق إمام أسئلة لا تؤرقه وحده بل تؤرق كل من مر فوق هذه الأرض، أسئلة حاول الأولون البحث عن إجابات لها، وبالرغم من هذا فإن إمام لا يغادر الحاضر واللحظة الراهنة التى يتأملها، ليقدم تحليلًا دقيقًا للحاضر الذى أبدًا لا يفارق ولا يتجاوز أسئلة الخرافات الدينية، والتى تمثلت داخل الرواية فى صورة الضريح الذى يفترض الجميع أن به وليًا صالحًا، وأنه قادر على كل شىء، حتى إنه قادر على أن ينجب بعد موته، وعالم فيه «الناس للأسف يخشون المعرفة ويعتبرونها آتية من الشيطان». كان لا بد للإنسان الذى يحمل كل هذه الأسئلة العميقة للغاية ألا يفكر سوى بالنهاية متى يخرج من هذه المدينة؟ ومن هذا العبث، متى ينام فلا يستيقظ ثانية، ويستغرب حين يستيقظ، «كان يستغرب كلما نهض، كلما عاد من موت استعدادًا لموت آخر».