متحف الكتب.. ثروة نادرة فى باب الخلق
عمره قرن ونصف وأسسه الخديو إسماعيل
دار الكتب تضم كتبًا نادرة ووثائق تاريخية وعملات عتيقة.. وتحتوى على عرض تفاعلى إلكترونى
قاعة «الاطلاع والقراءة» تضم آلاف الكتب.. و«الميكروفيلم» تتيح للباحثين التصوير ومتحف يحوى العديد من الأقسام والمقتنيات
قسم «التعليم» يشرح تاريخ صناعة الكتب.. وقاعة «العلوم» تحوى «القانون فى الطب» و«مسالك الممالك» للإصطرخى و«المجسطى» لبطليموس أبرز المخطوطات
خدمات خاصة لذوى الهمم وكبار السن.. وإتاحة القيام بجولة شاملة داخل «المتحف» بشكل افتراضى
فى عام ١٨٧٠ أصدر الخديو إسماعيل مرسومًا بإنشاء دار الكتب المصرية، وكانت تعرف حينها بـ«الكتبخانة الخديوية»، وقد جمعت الكتبخانة تحت إشراف على باشا مبارك الذى كان من أهم رواد هذا العصر والذى ساهم فى إحداث نهضة على مختلف المستويات الثقافية والتعليمية والعمرانية تحديدًا فى فترة الخديو إسماعيل، ولعب دورًا هامًا فى بناء مصر الحديثة.
فى البداية كان مكان الكتبخانة فى الطابق الأرضى من سراى الأمير مصطفى فاضل باشا الواقعة فى شارع درب الجماميز بالسيدة زينب، وعلى بُعد أمتار من مسجده الموجود فى شارع بورسعيد حتى الآن، وفى العام ١٨٩٩ وضع الخديو عباس حلمى الثانى، الذى كان مهتمًا بحفظ التاريخ المصرى وساعد فى ترميم الكثير من المساجد الأثرية، حجر الأساس لمبنى جديد فى ميدان باب الخلق، جاءت تصميماته مستوحاة من الطراز المملوكى، ليكون هذا المبنى الذى نقوم بزيارته اليوم.
بينما وأنت تسير فى حى الدرب الأحمر التاريخى بالقاهرة ستمر أثناء سيرك على شارع يحمل اسم القلعة وأسفل اللوحة المكتوب عليها اسم الشارع كُتب «محمد على سابقًا»، فشارع محمد على واحد من أقدم الشوارع فى تاريخ العاصمة العتيقة، وارتبط اسم الشارع بالعديد من الأحداث السياسية الحديثة والقديمة والعديد من الأحداث الاجتماعية مثل انتشار الفرق الشعبية وصانعى الآلات الموسيقية بهذا الشارع، كما أن بعض أفلام الأبيض والأسود أرّخت وجعلتنا نتعرف على شكل الشارع فى العصور القديمة، حيث أبرزت تصميم الشارع المميز والذى خططه على باشا مبارك على الطراز الفرنسى الشهير، ليكون مثل أحد أشهر الشوارع فى باريس.
سترى أثناء مرورك وبينما أنت تستعيد كل هذا التاريخ، مبنى مهيبًا كتب فى أعلى مدخله على لوحة من الرخام «المكتبة المصرية أنشئت ١٣١٩ هجرية»، وأسفل هذه اللوحة وأعلى باب الدخول لوحة أخرى من الخشب عليها الآية القرآنية «اقرأ وربك الأكرم الذى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم».
ولكن قبل أن نلج معًا ونقوم بتفقد وزيارة المكان يجب أن أشير إلى أن تقديم هذه الزيارة على صفحات جريدة «الدستور» لم يكن أبدًا بالشىء اليسير، بعد أن لاقيت تعنتًا شديدًا من قبل القائمين على المكان من مسئولين ومشرفين، فقد طالبت المشرفة على دار الكتب، والتى لم أستطع الوصول إليها إلا بعد استئذان مدير العلاقات العامة ومدير مكتبها لأكثر من مرة فقط لكى تسمح لى بمقابلتها. وبعد مقابلة لم تستمر لثوانٍ أمرتنى بعدم تصوير أو تسجيل أى معلومة تخص المتحف، بالرغم من أننى أخبرتها بأن قيامى بزيارة المكان من أجل تعريف الناس بجزء هام من ذاكرة مصر ألا وهو دار الكتب القديمة، وأنه من المستحيل أن أحفظ كل هذه المعلومات التى سأعرضها للقارئ، ولكنها أصرت على تطبيق الشروط البيروقراطية، مثل خروج تصريح رسمى من الجريدة، ومن الجهة العليا التى تدير دار الكتب، وفى النهاية لم ينقذنى فى هذه الرحلة والزيارة سوى مرشد سياحى يعمل فى المكان، والذى أخذ يعرفنى بتفاصيل كل قطعة فنية يضمها المكان وبتاريخ كل شىء بصبر وجهد ومحبة لا حدود لها.
يضم مبنى دار الكتب ثلاثة أقسام، القسم الأول هو قاعة الاطلاع والقراءة، والتى تضم آلاف الكتب فى كل المجالات العلمية، والتى يمكن أن يحتاج إليها الطلاب والباحثون، أو محبو القراءة والمعرفة، بعض هذه الكتب يعد مراجع شديدة الأهمية، وبعضها حديث الإنتاج.
والقسم الثانى فى المكان هو قاعة «الميكروفيلم» والتى تتيح للباحثين الاطلاع والتصوير والحصول على المادة العلمية الخاصة بالمخطوطات شديدة القيمة، والتى مر على كتابة بعضها آلاف السنوات.
والقسم الثالث والذى قد يجد فيه قارئ هذه السطور متعة شديدة عند زيارته هو «متحف دار الكتب»، الذى يضم العديد من الأقسام والمقتنيات شديدة الأهمية.
فمثلًا فى قسم التعليم داخل المتحف، نتعرف على تاريخ صناعة الكتب، لنرى أنواع الورق المستخدم فى الكتابة، وأدوات صناعة المخطوط بشكل عام، مثل الأحبار التى كانت تستخلص من مواد طبيعية، وأسطح الكتابة، ومن ثم كيفية تجميع الأوراق وإلصاقها بواسطة الصمغ وتخيطها بأدوات تقليدية ثم تجليدها بجلد طبيعى، وعلى إمكانية الكتابة بماء الذهب أو الفضة.
أما قاعة البرديات فبها مجموعة نفيسة من المخطوطات التى تشير إلى مدى تطور نظام الحوكمة المصرية ونهضة مصر بعد عصر محمد على باشا، واهتمام الدولة بالمواثيق الرسمية، للزواج والطلاق، وتسجيل أسماء المساجين، ومن هذه الأوراق نرى وثيقة تثبت هروب سجين، وأخرى تثبت عتق جارية، وبعض الأوراق التى لا تعود فقط لتاريخ مصر الحديث بل إلى القرن الأول الهجرى.
أما قاعة العلوم فتحتوى على بعض المخطوطات شديدة الأهمية، من بينها كتاب «القانون فى الطب» والذى يعد موسوعة طبية تنقسم إلى خمسة مجلدات، ألفها العالم والطبيب والفيلسوف المسلم ابن سينا، يعتبر الكتاب من المؤلفات المؤثرة والمعتمدة فى مجال الطب فى العالم حيث اعتُمِد كمرجع أساسى لتدريس الطب فى الكثير من الجامعات حتى القرن الثامن عشر.
كما نطلع على مخطوط لكتاب «منهاج الدكان ودستور الأعيان فى أعمال وتراكيب الأدوية النافعة للأبدان» وهو من تأليف الهارونى، ويعد من أهم ما كتب بالعربية فى علم الصيدلة.
أما قسم الجغرافيا والفلك ففيه العديد من المخطوطات عن الكتب التى تتحدث عن البلدان المختلفة، مثل كتب الرحلات التى قام بها الرحالة بوصف كل بلد قاموا بزيارته وعاداته وتقاليده وأبرز معالمه السياحية.
ومن ضمن هذه المخطوطات نرى كتابًا يتحدث عن شكل الحرم المكى، وشكل المآذن التى أضافها حكام المماليك فى الحرم المكى، وشكل الحرم آنذاك، وفى كتاب آخر نرى رحلة أحد الرحالة إلى بلاد الهند ليصف ما بها من عجائب ويكشف ما فيها من أسرار.
من ضمن هذه الكتب النفيسة كتاب «مسالك الممالك» للإصطرخى أبوإسحاق إبراهيم، فى «مسالك الممالك» يذكر الإصطخرى أقاليم الأرض وممالكها إجمالًا، ثم يتحدث عن بلاد الإسلام مفصلة ويقسم المعمور من الأرض إلى عشرين إقليمًا ثم يذكر كل إقليم منها بما اشتمل عليه من المدن والبقاع والبحار والأنهار. على هذا النحو ذكر أولًا ديار العرب ثم أتبعها بالكلام على بحر فارس فبلاد المغرب ومصر والشام وبحر الروم والجزيرة والعراق، وخراسان وكرهان وما اتصل بهما من بلاد السند والهند إلى ما وراء النهر.
ونرى مخطوطًا لكتاب «المجسطى» لبطليموس وهو من أهم علماء عصره فى علم الفلك، وقد حرر الكتاب أو نقله للعربية نصر الدين الطوسى، أما بطليموس فقد قدم للبشرية بعضًا من أهم الأطروحات والكتب ومن ضمنها هذا الكتاب.
وبطليموس هو مؤلف العديد من الأطروحات العلمية، التى كان لها تأثير كبير على العلوم الغربية والشرقية، وذلك عن طريق كتبه العديدة والمتنوعة، وأول هذه الكتب ومن أهمها هو كتاب «المجسطى» الذى يضمه المتحف.
كلمة «المجسطى» تعنى الأطروحة الرياضية، والكتاب عبارة عن رسالة بحثية فى الفلك والرياضيات ألفه العالم الإغريقى بطليموس عام ١٤٨م فى الإسكندرية. يعتقد أنه أقدم كتاب معروف فى الفلك بمفهوم فلكى مرتبط بأفلاك الفضاء والنظام الشمسى عامة، وعلاقة هذا النظام بكوكب الأرض.
يضم أيضًا المتحف بعض الخرائط النادرة، من ضمن هذه الخرائط خريطة تصف الأماكن التى احتلها الإسكندر الأكبر، وفى جزء منها تحتوى على شرح ومجسم لمعبد آمون فى واحة سيوة، ويعد معبد آمون من أشهر الأماكن الأثرية والسياحية فى واحة سيوة التابعة لمحافظة مطروح، ويقع المعبد فوق هضبة «أغورمى» التى ترتفع ٣٠ مترًا عن سطح الأرض، وقد شهد المعبد فى زمن ما تتويج الإسكندر الأكبر ابنًا للإله آمون، كوسيلة اتخذها الإسكندر للتقرب من المصريين.
أما أقدم الخرائط فهى خريطة «بورتولان» التى تعود إلى القرن السابع الهجرى، والتى تصف موانئ وشواطئ أوروبا وشمال إفريقيا، وتذكر أشهر القبائل التى تعيش فى كل مدينة ساحلية.
يضم المتحف أيضًا العديد من المسكوكات والعملات النادرة، أقدمها «فلس» يعود إلى زمن الدولة الأموية وتحديدًا عبدالملك بن مروان وعليه نقش لصورته.
وهناك عملة تذكارية عليها صورة محمد على، وقد صدرت هذه العملة احتفالًا بمعاهدة تمت بين مصر وإنجلترا آنذاك لتأمين طرق التجارة مع الهند.
ونستطيع معرفة بداية ظهور ما سيعرف بعد ذلك بالعملة الورقية، والتى أول ما ظهرت كان شكلها يميل إلى الشيكات، المكتوبة بخط اليد.
أما فى قاعة الأدب داخل المتحف فنستطيع أن نرى أهم ما كتب فى تاريخ الأدب العربى والتركى والفارسى، مثل كتاب «الشاهنامة» الذى يعد من أقدم الكتب الأدبية التى تصف وتسرد تاريخ ملوك فارس قبل الإسلام.
وقسم الوثائق يضم العديد من الوثائق الرسمية شديدة الأهمية، من ضمن هذه الوثائق، وثيقة نفى الزعيم أحمد عرابى، وتذكر الوثيقة كيف تحول الحكم على أحمد عرابى من الحكم بالإعدام إلى الحكم بالنفى، وفى حالة عودته إلى مصر فسيحكم عليه بالقتل فورًا.
وهناك داخل المتحف قاعة أخرى للمصاحف، بها صندوق شديد الجمال مصنوع على شكل قبة الصخر بالقدس، يعود إلى أسرة محمد على، وقد تم صنع الصندوق ليحفظ بداخله المصحف. ونرى مصحفًا آخر يعود للقرن الثانى الهجرى مكتوبًا بالخط الكوفى.
بالإضافة للكتب التى مدحت الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها كتاب «الكواكب الدرية فى مدح خير البرية (البردة)» للبوصيرى، الذى تعد قصائده من أهم ما كتب فى مدح الرسول.
ومصحف آخر يعود للعصر المملوكى وهو مصحف السلطان شعبان الذى قام بعمله على روح والدته ووضعه بالمسجد الشهير باسم «أم السلطان شعبان» بشارع باب الوزير، ولكن تم جلب المصحف من المسجد ووضعه بالمتحف، ليصير أحد أهم عناصر المتحف.
فى النهاية يضم المتحف جزءًا للعرض التفاعلى الإلكترونى، والذى يمكن الزائر تحديدًا إذا كان من كبار السن أو ذوى الهمم، من عمل جولة كاملة ومشاهدة كل مقتنيات المتحف فقط من خلال الشاشة التى تعمل باللمس، بالإضافة لإمكانية تصفح المخطوطات بشكل كامل وقراءتها.