زيارة جديدة للوادى القديم
لا صوت يعلو طيلة هذا الشهر فوق صوت تلك الأقدام التى تخبط الكرة فى رءوسنا.. إنه موسم «كرة القدم» الأشهر على مستوى العالم.. العواجيز قبل الشباب والنساء قبل الأطفال وجدوا غايتهم فى «المستديرة» التى تخطف القلوب.
لا شك عندى فى ذلك.. ولا شك عندى فى أن العرب، كل العرب.. سيكسبون كثيرًا إذا ما أحسنوا المهمة بتنظيم هذه الدورة فى أحد بلدان الشرق.. ستكسب الدوحة حتمًا مهما كان حجم وقدر ما صرفته من أموال وما أنفقته من جهد طيلة خمسة عشر عامًا ويزيد.
أعرف هذا مثلما يعرفه أطفالنا.. وناسنا الذين التفوا على المقاهى التى استطاعت دفع «حق الفرجة» بذلك الاشتراك اللعين.. وأعرف أن الملايين غيرهم راحوا يبحثون عن تلك التطبيقات التى تتيحها أجهزة الموبايل لفك شفرة القنوات المغلقة للفرجة والاستماع.
وأعرف- أننا نحن العرب- فى احتياج حقيقى لأى فرح.. لأى شعور بالتفوق.. وقطعًا سأفرح لأى فريق عربى إذا ما قدم أداءً طيبًا ومتعة كروية.. هذا فى حدود ما هو طبيعى جدًا.. وفرحت مثل الكثيرين ممن شاهدوا أداء فريق المملكة العربية السعودية فى مواجهة الأرجنتين.. لكن هالنى ذلك الإحساس الغبى الذى انتاب البعض من أهلنا فى مصر.. بأن مصر تأخرت فيما تقدم الآخرون.. بأن من هناك هم الأفضل وتحسروا على فريقنا ونجومنا.. ونسوا أن من بين أبنائنا من هو الأفضل فى العالم.
ذلك الإحساس الغريب بالانكسار والدونية هو أسوأ ما رافق الأيام الأولى لانطلاق هذه البطولة.. التى أرى أن كل ما فيها حتى هذه اللحظة طيب ومبهر ورائع بالنسبة للدوحة.. لكنه- من وجهة نظرى- عادى جدًا بالمقارنة بمئات الاحتفاليات التى جرت هنا فى مصر وآخرها فى الأقصر ومن قبلها فى متحف الحضارات.
هذا الإحساس الردىء.. ناتج عن جهل كبير بما نملك.. وبقدراتنا.. بمواردنا.. بتاريخنا.. بإنجازنا الذى يتحقق على الأرض فعلًا... هؤلاء يتعامون عن فكرة الثقافة التى قدمتها ميريام فارس فى عرس الافتتاح.. هل يستطيع أحدهم أن يبلغنى ما هو نوع هذه الثقافة ومن أين تم استيرادها وبكم؟.. الأمر لا يتعلق بكونها تقلد شاكيرا من عدمه.. الأمر يتعلق بالمحتوى الذى قدمته ودلالته.. ما تملكه مصر من موارد ثقافية لا يمكن مقارنته بأى بلد فى الشرق كله لمن يعرف وهذا ليس من قبيل المزايدة.
وقبل هذا الإحساس الذى أرصده منذ فترة لدى عدد غير قليل من المواطنين المصريين الذين أتعبتهم تقلبات الأحوال الاقتصادية فى الألفية الجديدة.. وعقب جائحة كورونا تحديدًا.. وعقب ما سمى بالربيع العربى وتداعياته.. قبل هذا الأمر.. أتوقف عند الخسارة الكبرى التى تعرض لها العرب نتيجة جهل وتطرف ومغالاة البعض ممن لا يملكون أى عقل أو ثقافة تمكنهم من تصدر المشهد.
لقد ساهمت الدوحة منذ سنوات عبر مجلة الدوحة وفعاليات ثقافية أخرى فى خلق مناخ ثقافى عربى مهم.. وتجربة رجاء النقاش وآخرين هناك خير شاهد.. لكن السنوات الأخيرة باعتماد الدوحة نماذج مسطحة وتافهة صاحبة أداء غوغائى مثل محمد أبوتريكة، الذى أثبت أنه لا يجيد استعمال رأسه مثلما كان يستعمل قدميه أوقعهم فى فخ «عنصرية» فجة وأداء صبيانى هو الأردأ بين محللى ومعلقى القناة التى تبث فعاليات البطولة على العالم كله.. أضاع هذا الرأس، الذى لا يفكر، الفرحة وراح يخلط بشكل مُزرٍ بين «الدين» وبين «الكرة».. هذه الصورة التى تم تصديرها بافتتاحية أبوتريكة وكلماته «الهبلة» ماذا لو أن إسرائيل نظمت كأس العالم وصدرت لنا- كمسلمين- نموذجها الدينى ودعت من على منابر البطولة لمن يعتنق هذه الديانة؟
ماذا لو أن دولة أوروبية أقامت بطولتها على صوت أجراس الكنائس وصعد على مسرح الافتتاح من يزعم أن ذلك أسهم فى تنصير مائة أو مائتين من المسلمين؟ هذه الفتنة البغيضة هى عكس ما تهدف إليه بطولات كرة القدم من الأساس.. وتناول هش واستثمار غبى لبطولة مدهشة ومهمة.
البداية والنهاية فى الأمر.. هو الجهل بما نملك.. من مقومات وهوية.. لا يمكن تأصيلها بهذا الكم الفارغ من الأصوات الجاهلة الزائفة.
ربما لهذا السبب وحده.. أذكركم بأن هذا الشهر تحتفل محافظة مصرية حدودية بعيدها القومى.. هى محافظة ليست جديدة لكن يد التعمير لم تذهب لها إلا فى عام ١٩٥٩ فى مثل هذا الشهر.. ثم انطفأ الاهتمام مجددًا مع مطلع السبعينيات.. لنتذكرها الآن ويجرى على أرضها تعمير جديد ومختلف.. إنها محافظة الوادى الجديد.
هل يعرف أبناؤنا الذين يشعرون بالانسحاق الآن.. لمجرد نجاح دولة عربية شقيقة فى تنظيم احتفالية ما.. أن هذه المحافظة مساحتها ٤٤٠ ألف كم مربع.. يسكنها فقط ٢٦٢ ألف مواطن مصرى.. يزرع من مساحتها ٦١٨ ألف فدان بمحاصيل شتى.. هل يعرف أبناؤنا أن هناك مشروعًا عملاقًا على تلك الأرض الزراعية.. ٢٫٥ مليون نخلة.. وأن هناك مشروعًا مدهشًا لإنشاء «واحة الحرير» على مساحة ١٨٠ فدانًا شمال مدينة الخارجة لإعادة إنتاج «الحرير» مجددًا من زراعة التوت الذى تتم زراعته هذه المرة فى «صوب».. هل نعرف أن على هذه الأرض تم إنشاء مزرعة ضخمة لإنشاء المشتل الأكبر لشجر الجوجوبا الذى ينتج الزيوت الطبيعية، والتى يستخدم بعضها كزيوت لمحركات الطائرات.. يبدو أننا لا نعرف.
هذه هى المحافظة الأقل عددًا من السكان.. والتى لا نعرف شيئًا عن أهلها وإمكاناتها.. ربما اندهش البعض حينما قام أحد مخرجينا بتصوير مسلسله «واحة الغروب» فى إحدى قراها.. وانبهر.. لهذا التراث الذى نملك أضعاف أضعافه فى أى قرية من قرانا.. ربما أستغل هذه المناسبة التى تحتفل فيها المحافظة بعيدها بعيدها، حيث يتوجه إليها بعد أيام عدد كبير من مثقفى مصر للمشاركة فى مؤتمر أدباء الأقاليم لأطلب من محافظها أن يخرج بضيوف المؤتمر خارج «الأسوار».. خارج أسوار الندوات المعتادة.. لهذا العالم الفذ، الذى تجرى عملية تعميره على يد أبنائنا وعليهم وعلى كل كاميرات قنواتنا أن تنقل لأبنائنا وللعالم بطريقة مختلفة ما نملك على الدوام وليس لمجرد ساعات.. علينا أن نمهد لحدث آخر ضخم على بُعد خطوات من الانتهاء وهو «المتحف الكبير».. فهذه القطع الأثرية التى يتم «رصها» هناك بالقرب من الأهرامات ليست مجرد حجر.. هى الأمس بكل ما فيه.. وهى الحاضر.. والغد الذى نملكه أيضًا فى الوادى الجديد.. والقديم كذلك.