وماذا بعد مؤتمر المناخ؟
هناك من لا يفهم.. وهذا أمر طبيعى.. فلسنا جميعًا نعرف كل شىء.. وما دمنا لا نعرف فمن المؤكد أننا لن نفهم.. لكن الغريب أن البعض يرفض أن يعرف.. هو ينكر المعرفة من الأساس ويرفض أن يفهم، فهو يرفض الفهم من الأساس برضه.. لكنه يسأل وكأن السؤال شهوة فى حد ذاته.. وإن أبديت استغرابًا يفاجئك ببجاحة تليق به «هوه السؤال حُرم؟».
لم تعد المعرفة أمرًا صعبًا هذه الأيام.. أذكر ونحن أطفال فى قريتنا البعيدة فى «جوف الصعيد».. لم تكن هناك كهرباء، كنا نستخدم «الجاز» وقودًا لتلك اللمبات البسيطة المصنوعة من الزجاج وكنا نسميها «لمبة عشرة»، لأنها مميزة إلى حد ما عن تلك اللمبات المصنوعة من فوارغ علب الصلصة، والتى يتم وضع «شريط قماش» فيها بعد امتلائها بالكيروسين الذى يسحبه الشريط الذى يتم إشعاله ليمنحنا القليل من الضوء والكثير من «الهباب» وثانى أكسيد الكربون الخانق.. وبما أنه لم تكن هناك كهرباء.. فلم يكن هناك «تليفزيون» ولا وجود للتليفون إلا فى بيوت قليلة.. فمن أين تأتى المعرفة؟! وكيف تميز أبناء تلك الأيام من جيل طه حسين العظيم والعقاد بكل هذه القدرة على «الخيال» و«التفكير»؟!
لم يكن هناك سوى «الراديو» الخشبى ببرامجه البسيطة والواعية وأغنياته ومسلسلاته وأصوات قارئى القرآن الكبار فى دولة التلاوة المصرية بتجلياتها المدهشة.
لم يكن هناك باب للمعرفة غيره.. والمكتبات والصحف.. والمكتبات لم تكن موجودة سوى فى عواصم المدن.. وهذه المدن لم نكن نذهب إليها من الأصل إلا فى حالة الضرورة القصوى فى زيارة عاجلة لمريض فى مرحلة متأخرة.. أو فى الأعياد لمشاهدة «السينما» دون علم الأهل.. أما الصحف.. فهى أعداد بسيطة تصل متأخرة فى «قطر الصحافة» يحصل عليها حاجزوها بالاسم.
ورغم ذلك الجفاف.. كان الناس شغوفين بالمعرفة.. يسألون عن حق لأنهم جوعى للمعرفة بحق.. وكانت الدواوير عامرة بمن يعرف من أساتذة الأزهر الذين حصلوا على «العالمية» وخرجوا إلى المعاش.. من بعض مدرسينا الذين حصّلوا علمًا طيبًا ومعرفة أكبر.. من بضع مكتبات فى البيوت لدى عدد محدود من هؤلاء الباحثين عن المعرفة.. المعرفة بمعناها المطلق.. هذه المكتبات النادرة أتاحت لمن هو مثلى أن يقرأ وهو طفل ما كتبه ابن الفارض وابن خلدون ودوستويفسكى وأحمد أمين وغيرهم من سادة الفكر والكتابة.. والأهم وجدنا من يشرح لنا.. ويعلمنا محبة «المعرفة».
اليوم.. ومع كل هذه السماوات المفتوحة.. وسط كل هذه الدوشة.. كل هذه الطرق التى هى بلا حدود لمعرفة غير نهائية.. شاشات لا حصر لها.. بلغات لا حصر لها.. كتب لا حصر لها.. ومكتبات إلكترونية لا حصر لها.. الآن معرفة العالم بحالها فى يدك.. بدوسة زرار واشتراك يسير ورغم ذلك هناك مَن يسأل: وماذا بعد مؤتمر المناخ؟.. يسأل لا ليعرف ولكن لينكر فقط على هذه البلاد حق أن «تبهر العالم» وأن تستنطقه ليعالج أمراضه.
لا تحتاج مصر إلى شهادة من أحد فى العالم لكنها تحتاج إلى العالم نفسه.. كما يحتاج هو إليها.. فالخطر الذى يحاصرنا من جراء الاستخدام السيئ للبشرية للطبيعة ومواردها لا يستثنى أحدًا.. وطيلة المؤتمرات السابقة كان العالم يتهرب من دفع فاتورة ما جنت يداه.. الدول النامية والفقيرة وحدها تتحمل لكنها لا تقدر على دفع كلفة ما أفسده العالم الغنى بصناعاته التى دمرت الطبيعة وأفسدتها، فراح يشكو بعد أن طالته سوءات ما فعل.
هذه المرة نجحت مصر فى تنظيم واحدة من أهم فعاليات العالم.. جاءها القادة والمهتمون من كل حدب وصوب.. جلسوا.. تناقشوا.. وتوصلوا إلى توصيات وقرارات تحدد مسارات بعينها ومعاهدات بعينها من أجل السنوات القادمة.. من أجل «الناس».
نجحت مصر بسياستها ودبلوماسيتها وبشبابها فى تنظيم حدث مهم فى توقيت صعب.. وراح العالم كله يتلقف الدعوة التى أطلقها الرئيس فى المؤتمر لوقف الحرب فى أوكرانيا لتبدأ فى منتديات أخرى، وقمة العشرين على سبيل المثال، دعوات مماثلة تبحث عن صيغة لتتوقف هذه «الحرب العبثية».. نجحت مصر فى خلق مسارات اقتصادية وعلمية مختلفة من خلال ما جرت مناقشته فى شرم الشيخ على مدار الأسبوعين الماضيين ليسمع المصريون ربما لأول مرة فى تاريخهم عن «الهيدروجين الأخضر»، لتبدأ تعليقات شبابنا على وسائل التواصل تسأل هذه المرة بجدية.. عن هذا الجديد والاستثمار فيه وعن تلك الأرقام التى تداولتها صحف وفضائيات العالم عن «الطاقة المتجددة».. عما أنجزته مصر وتنجزه على الأرض.. ووجد من يريد أن يعرف علاقة ما تربط هذا الجديد بقطار كهربائى يربط البلاد من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
لأول مرة.. فى تلك البلاد البعيدة التى كانت تستخدم الكيروسين إلى وقت قريب فى «الإنارة» سيقف ذلك القطار الذى يسير بسرعة ٢٥٠ كم فى الساعة بالقرب من تلك البلاد لينقل البشر والبضائع من الموانئ الجديدة التى يشيدها المصريون.
أبناؤنا الآن يبحثون فى مواقع التواصل عن مسارات ذلك القطار.. ومحطاته.. وكم سيوفر من الوقت.. وكم يبلغ سعر تذكرته؟.
لقد فعل مؤتمر المناخ شيئًا طيبًا.. بأن فتح باب السؤال لمن يريد أن يعرف وفتح باب المشاركة لمن يريد أن يشارك فى صنع المستقبل.