السينما والشخصية المصرية
تعيش القاهرة، بل دعونى أقول العالم العربى، هذه الأيام أجواء الاحتفال بأحد أهم المهرجانات السينمائية فى المنطقة «مهرجان القاهرة السينمائى الدولى»، هذا المهرجان العريق بالمقارنة بما لحق به من مهرجانات فى عالمنا العربى. وعاهدت نفسى أن أخصص مقالى الأسبوعى، فى السنوات الأخيرة، للاحتفاء بالمهرجان وبالسينما المصرية بوجه عام، وصادف فى هذا الشهر مشاركتى فى مؤتمر مهم بكلية الآداب جامعة القاهرة، حول الشخصية المصرية فى عالم متغيِّر، وكان السؤال الرئيس طيلة جلسات المؤتمر: هل هناك بالفعل «شخصية مصرية»؟
وبالقطع تطرح علينا أسئلة ما بعد الحداثة، أسئلة قاسية على الكثير من الثوابت التى ركنا إليها طويلًا، وطبيعى أنه ليس هناك إجابة قاطعة جامعة مانعة فى هذا الشأن «الشخصية المصرية»، لكننى وجدت نفسى، وبحكم ولعى بالسينما وتاريخ السينما المصرية، أحاول أن أطرح على نفسى أسئلة جديدة فى هذا الشأن خاصة بالشخصية المصرية. لعل السؤال العمدة فى هذا المجال هو: هل «المصرية» أصلًا هى عرق وجنس، أم هى فى حقيقة الأمر «حالة ثقافية»؟
ورحت أسترجع رواد ورموز السينما المصرية وأصولهم «العرقية»، وتذكرت حال طلابى فى الجامعة، وكنت أدرس لهم تاريخ لبنان، فى إطار مقرر تاريخ العرب المعاصر، عندما حاولت التلطيف من جو المحاضرة ومن جفاف التاريخ السياسى؛ إذ طرحت عليهم سؤالًا حول علاقات لبنان بمصر، وقلت لهم إن أشهر «حماة»، بل دعونى أقول النموذج المتجسد للحماة فى السينما المصرية، هى الفنانة مارى منيب، هل تدرون أن هذه «الحماة الأراشانة» هى من أصول لبنانية؟ وفى الحقيقة لم يصدق طلابى كلامى، وأصروا على أنها مصرية، وابتسمت وقلت لنفسى إنهم على حق، هى مصرية بالفعل، وهل المصرية حالة «عرقية»؟ لا، هى كما وصفتها «حالة ثقافية».
ولا أخفى عليكم أنه بعد المحاضرة بدأت فى إعادة طرح السؤال على نفسى حول ما هى المصرية؟ وفكرت ماذا لو قلت لوالدتى- أطال الله عمرها- إن نجيب الريحانى الذى تعشق فنه، من أب عراقى؟ ابتسمت وتخيلت حالة عدم التصديق التى ستظهر على وجهها. بالفعل كيف نصدق أن الريحانى، وهو خير من قام بتجسيد شخصية «الأفندى» المصرى البسيط، بخفة دمه، وسخريته اللاذعة، ليس مصريًا لأن أباه عراقى؟! وما بالنا لو طرحنا على أنفسنا نموذج الفنان استيفان روستى، ذى الأصول الأوروبية، خير من قدم على الشاشة المصرية شخصية «الشرير الشيك»، بل وقدم فى بعض الأفلام نموذج «المعلم» ابن البلد، وزعيم العصابة الذى نتعاطف مع قفشاته، وطريقة أدائه المتميزة، والتى استفاد منها بعد ذلك الفنان عادل أدهم؟.
هنا أيقنت أن «المصرية» هى بالفعل «حالة ثقافية» وليست حالة عرقية. وحاولت أن أؤكد لنفسى ما وصلت إليه من خلال مجال التاريخ، مهنتى الأساسية فى الحياة، وتذكرت أن أشهر مؤرخ فى التاريخ المصرى الحديث، وهو عبدالرحمن الجبرتى، كان من أصول غير مصرية، فالجبرتى هو لقب جده الذى جاء إلى مصر مهاجرًا من إقليم جبرت فى شرق إفريقيا. وتذكرت أيضًا حالة مؤرخ الحركة القومية فى مصر، عبدالرحمن الرافعى، وهو من أصول شامية.
وعادت الأسئلة تزاحمنى من جديد، وعلى رأسها السؤال التالى: هل فقدت مصر الكثير عندما تخلت عن فكرة «التنوع»، وتصورت أن «المصرية» عرق وجنسية؟ وهل سر حيوية مصر كان فى المصرية كحالة ثقافية؟