سياحة الزيتون.. سكة جديدة
كل ما نعرفه عن السياحة.. زيارة الآثار.. هكذا تعلمنا منذ عرفنا من مدرسينا فى المراحل الأولى بمدارسنا معنى السياحة.. وكل أجنبى هو سائح.. جاء للفرجة على آثار مصر التى نعرف أنها تملك ثلث آثار العالم فى الأقصر فقط.
لما كبرنا قليلًا.. عرفنا أن هناك أنواعًا متعددة من السياحة.. آخرها «سياحة العلاج».. وربطنا بينها وبين المدن التى تتميز بالهدوء وبالعيون الكبريتية مثلما هو الحال فى سيوة ومطروح وجنوب سيناء.. ومنذ فترة ليست بعيدة عرفنا سياحة السفارى.. وإن لم نمارسها.. وعرفنا سياحة المؤتمرات، وإن لم نعرف أين تتم وكيف فلم يدعُنا أحد إلى هناك.. حيث نتفقد هذه المؤتمرات التى يذهب إليها السائحون من داخل أو خارج البلاد.. الآن وقبل أن ينتهى مؤتمر المناخ سمعنا عن «سياحة الزيتون».. ولأننى مهتم بكل ما هو زرع.. بكل ما هو شجر.. بكل ما هو أخضر.. رحت أفتش عن مصطلح «سياحة الزيتون».. وفهمت أننا سنقيم خلال أيام قليلة بحديقة الأورمان بالجيزة معرضًا للزيتون.. كل ما يتعلق بزراعة وصناعة الزيتون.. والأهم «سياحة الزيتون».
الفكرة، ولا أعرف مَن أطلقها تحديدًا، جديدة تمامًا.. فهى تتحدث عن «الترويج» لنوع مختلف من الإنتاج المصرى.. وبالمناسبة أصبحنا من رواد هذا المجال.. فالزيتون المصرى، وبالتحديد زيتون المائدة، مصر تحتل المركز الأول فى إنتاجه قبل إسبانيا.. والأرقام الموجودة تؤكد أننا أصبحنا على مقربة من إنتاج مليون طن.. هناك عدد من الخبراء ينصحون بزراعة وإنتاج أنواع أخرى من الزيتون المستخدم فى صناعة «الزيوت».. حيث إننا نستهلك أرقامًا مخيفة.. ومع تنامى زراعة أشجار الزيتون فى مصر والتى بلغت ٢٤٠ ألف فدان، حسب تقديرات بعض الخبراء، ومع التوسع فى الزراعة ضمن المبادرات التى تتبناها الحكومة المصرية مؤخرًا، من المتوقع أن تزيد هذه المساحة لأربعة أضعاف ما هو منزرع حاليًا.
المهم.. أن أحدهم.. لا أعرف مَن هو.. يروج لفكرة أن تكون هناك زيارات لمزارع الزيتون الكبرى فى مصر.. بحيث يشاهد السائح عمليات «جنى» و«حصاد» الزيتون.. ويقتنى بنفسه «المخلل».. الذى يشاهد عملية تصنيعه أمام عينيه.. مثلما يشاهد عملية «عصر الزيتون» فى نفس الموقع.. مع قضائه وقتًا طيبًا فى جو ريفى صحى.
لا أعرف «نوعية» الزبون الذى يستهدفه أصحاب هذه الأفكار.. لكننى على كل حال فرح بأن تكون لدينا أفكار مختلفة.. والأهم أن نقنع نحن «سياح الداخل» أولًا بما لدينا من «موارد طبيعية غير مستغلة».
بحكم قربى من الكثيرين من أهل الزراعة فى مصر.. أعرف الكثيرين منهم وقد أتلف أشجار الزيتون فى أرضه، لأنه لا يعرف كيف يتعامل مع التغيرات المناخية التى جدّت فى الأعوام الأخيرة.. وقد تأثرت أنواع مختلفة من الزراعات، وبخاصة فى الأشجار المثمرة مثل الزيتون والمانجو.. وكلاهما منتج مصرى له سوق عالمية.. الكثيرون من مزارعينا لا يعرفون الفرق بين نوع وآخر من الزيتون، وهى فرصة طيبة لمن يريد أن يعرف أن يتوجه إلى ذلك المعرض المزمع إقامته بدءًا من الخامس من ديسمبر المقبل.. وهى فرصة طيبة أيضًا لمزارعينا لمعرفة كيف يتعاملون مع تلك الأنواع من الأشجار.
أعرف أن بعضكم يضحك فى سره الآن.. زيتون إيه وبتاع إيه ومخلل إيه الذى تحدثنا عنه يا راجل!! أعرف ذلك جيدًا.. لكننى أعرف أيضًا أن صناعة الزيتون هى إحدى أهم الفرص الكبرى فى المستقبل القريب، وبخاصة فى مصر التى تستورد ما يقرب من خمسة وتسعين بالمائة من استهلاكها، وأعرف أن الكثيرين من أطباء وخبراء العالم يحذرون من الإفراط فى استخدام الزيوت النباتية المهدرجة وينصحون باستخدام زيت الزيتون.. من ناحية أخرى يؤكد الخبراء من شتى أنحاء العالم أن العلف المستخرج من بقايا عمليات عصر الزيتون هو الأغلى والأفضل للثروة الحيوانية والداجنة أيضًا.
أكره ذلك المصطلح الذى يردده الاقتصاديون بمناسبة وبدون عن دعم «المشروعات الصغيرة».. والذى لا يخرج فى النهاية عن كونه عمليات إقراض صغيرة للمعدمين من أهلنا فى الأرياف معظمها لا يذهب فى أى عمليات اقتصادية.. للأسف هى مجرد ديون قابلة للزيادة ويتم استخدامها فى «فك زنقة» مش أكتر.. فلماذا لا يذهب هؤلاء فعلًا إلى مزارعى الزيتون وتشجيعهم بمنحهم فرصة وجود عصارات صغيرة؟.. لماذا لا تتوجه الحكومة إلى بناء مجمعات صناعية لعصر الزيتون ومعالجته؟.
لقد شاهدت آلاف الأفدنة فى محافظة الوادى الجديد وقد تم تخصيصها ضمن مبادرة رئاسية لزراعة الزيتون.. وفهمت من الفلاحين هناك أن المحافظة تقوم بمنح الأرض بالتقسيط المريح ولمدة تصل إلى ثمانى سنوات بشرط زراعة الأرض بشتلات الزيتون التى تتيحها المحافظة مجانًا للزراع.. إلا أن أغلب هؤلاء لا يلتزم بزراعة الزيتون.. هم ينتظرون أن تنتهى عملية حصولهم على عقود نهائية بشراء الأرض واقتلاع ما بها من أشجار الزيتون لزراعة محاصيل يعرفونها ويعرفون كيف يسوّقونها.
باختصار ثقافة زراعة الزيتون غائبة تمامًا عن فلاحينا فى «الوادى القديم».. ويعانى الذين قرروا اقتحام الصحراء من عدم وجود مصانع لزيوت الزيتون من ناحية، ومن تلك التغيرات المناخية التى أصابت مزارعهم فى الشتاء الماضى من ناحية أخرى، ومن المنتظر أن تؤثر على مزارعهم فى الشتاء المقبل أيضًا.
على كل حال.. قنواتنا الإخبارية منها والعامة عليها أن توفد مراسليها إلى حديقة الأورمان طيلة فترة ذلك المعرض المقبل.. وخبراؤنا عليهم أن يشرحوا لنا ببساطة ماذا سيحدث قريبًا من تغيرات مناخية وكيف يتعامل الفلاحون معها؟.. علينا أن نعيد قراءة هذا الملف.. والذين يرغبون فى الاستثمار ويزعمون أنه لا فرصة لذلك، عليهم أن يذهبوا بعيدًا عن أفكارهم القديمة.. هذه الصناعة واعدة بشكل كبير.. وأوروبا والعالم يتعاملان بجدية شديدة مع «الزيتون المصرى»، سواء كان زيتون المائدة.. أو «زيت الزيتون».. مصر نفسها ومحيطها العربى والإفريقى سوق واعدة للزيوت بجميع أنواعها.. وتحتاج إلى عشرات المصانع.. وأعتقد أن الحكومة مؤخرًا سهّلت الكثير مما كان يعتبره المستثمرون عوائق تضرب الاستثمار وتؤذى المستثمرين.
لا أعرف إذا كان المشروع الجديد الذى تتبناه وزارتا التنمية المحلية والإنتاج الحربى لزراعة خمسة ملايين شجرة فى مصر كمرحلة أولى يستهدف بعدها الوصول إلى مائة مليون شجرة قد حدد أنواعًا بعينها من الأشجار المثمرة أم لا؟.. ولا أعرف إن كانت شجرة الزيتون المباركة من ضمن الأنواع المستهدفة أم لا؟.. ورغم وجود ما يسمى «المجلس الأعلى للزيتون» فى مصر، إلا أن المعلومات المتاحة للعامة وللمتخصصين فى هذا الشأن قليلة جدًا وتكاد تكون معدومة.
الزراعة ثقافة.. والصناعة ثقافة.. والاستثمار ثقافة.. والسياحة ثقافة أيضًا.. هذه الثقافة تحتاج إلى جهد مؤسسى مختلف.. إلى تفكير مختلف.. وحسنًا فعل الرجال الذين لا أعرفهم عندما فكروا فى إقامة هذا المعرض.. وحسنًا فعل الرجال الذين يفتحون بابًا جديدًا للمستقبل اسمه «سياحة الزيتون».