تاريخ العائلات المصرية
ساد الاعتقاد لفتراتٍ طويلة من الزمن أن التاريخ ما هو إلا حوليات الملوك والسلاطين، والوقائع الحربية، ومعاهدات الصلح، أو صك الاستسلام والاعتراف بالهزيمة. وربما أتى ذلك من طبيعة المفهوم التقليدى للتاريخ «تاريخ الدول والملوك»، حتى إنه تم تصوير المؤرخ على أنه الرجل العجوز ذو اللحية البيضاء المُمسِك بالريشة والورق، والجالس فى بلاط السلطان ليسجل «منشآت السلاطين»!
ولكن مع تطور علم التاريخ، وتداخله مع العلوم الإنسانية الأخرى، طُرِح السؤال المهم: «عن أى تاريخ نكتب؟» هل تاريخ الحكام، الذى أصبح يُعرف بالتاريخ السياسى؟ أم «تاريخ الناس» الذى أصبح يُعرف بالتاريخ الاجتماعى؟ ولا أريد أن أطيل فى هذه النقطة، لأن المسألة ازدادت تعقيدًا بانفتاح التاريخ على العديد من العلوم الإنسانية الأخرى، هذا الانفتاح الذى غيَّر من وجهة التاريخ واتجاهاته ومبتغاه. وما يهمنى الإشارة إليه، بل والتركيز عليه هنا، هو «تاريخ الناس»، وبالتحديد تاريخ العائلات.
بدأ الاهتمام فى الغرب بتاريخ العائلات فى إطار «ثورة» علم التاريخ، والخروج عن المألوف، وإدراك أننا لا نستطيع تفسير الأحداث الكبرى والتحولات المهمة دون النظر فى التفاصيل الكاملة للصورة، ومنها تاريخ العائلات. وليس المقصود هنا الاهتمام بتاريخ العائلات الحاكمة، بل تم تجاوز ذلك والنزول درجة إلى تاريخ العائلات الأرستقراطية، ومع التأثير الكبير للمادية التاريخية، وأيضًا الانفتاح على علم الأنثروبولوجيا، بدأ الاهتمام بتاريخ عائلات «الطبقة الوسطى»، وهى- أى الطبقة الوسطى- العامل الرئيس لعصور النهضة، والمتغيرات الكبرى فى أى مجتمع. وظهرت العشرات، بل دعونى أقول المئات من الأبحاث حول تاريخ عائلات الطبقة الوسطى. وساعد على هذا النوع من الدراسات فى الغرب توافر مادة مهمة نظرًا لطبيعة المجتمع من خلال سجلات «التعميد» و«الوفاة» فى الكنائس والحفاظ عليها.
أما فى الشرق، ومع عدم توافر هذه السجلات فى الشرق «الإسلامى»، تأخر الأمر كثيرًا. وساهم الانغماس فى كتابة تاريخ الحركة الوطنية، وتغليب الجانب السياسى، فى الابتعاد عن هذا الاتجاه الهام فى الكتابات التاريخية.
تداعى إلى ذهنى كل هذه الأفكار وأنا أشارك فى إدارة الندوة المهمة التى قدمها الصديق «عماد أبوغازى» عن أرشيف العائلات، ونموذج أرشيف عائلته، هذا المشروع البحثى المهم الذى اختار له عنوانًا مُعبرًا ومثيرًا فى الوقت نفسه: «الأرشيف الذى ورثته»، ويحتوى هذا الأرشيف على مادة ورقية، وصور فوتوغرافية، وطوابع بريد، وكروت بوستال، ومخاطبات حكومية، تمتد زمنيًا من نهايات القرن التاسع عشر حتى الآن، وتمتد أيضًا عبر العديد من أجيال العائلة، ومع متغيرات مصرية وعالمية. ويكفى أن نذكر أنه يمكننا أن نتعرف من خلال أرشيف هذه العائلة التى تنتمى إلى «الطبقة الوسطى» على تاريخ شخصية فنية وقومية مشهورة مثل الفنان محمود مختار، وأيضًا على حياة ودور وزير الثقافة بدر الدين أبوغازى، وكذلك ابنه وزير الثقافة عماد أبوغازى. لكن الأمر لا يقتصر على تاريخ المشاهير من العائلة فحسب، بل نعثر على وثائق خاصة بشئون الزراعة والرى للأسرة أثناء الفترة الريفية من حياتها، وقبل انتقالها إلى القاهرة، وكذلك على صور فوتوغرافية لزوج وزوجة من الأسرة، والزوجة سافرة الوجه وذلك قبل ثورة ١٩، ومدرس ثانوى للتاريخ يذهب مع زوجته لحفلات الأوبرا فى الثلاثينيات، وصور لمدارس البنات فى الخمسينيات والستينيات.
وهنا ينبغى أن نطرح على أنفسنا السؤال التالى: هل هذا النموذج من عائلة «أبوغازى» هو حالة فريدة أم هو نموذج لحالة العديد من عائلات الطبقة الوسطى المصرية؟ والسؤال الأهم: كيف نحافظ على «أرشيف» الطبقة الوسطى فى مصر من الضياع أو البيع لتجار الروبابيكيا؟ هل نحن فى حاجة إلى مؤسسة أهلية للحفاظ على هذا التراث وإتاحته للجميع لأنه جزء أساسى من تاريخ الأمة المصرية؟ أم أنه يمكن لمؤسسات ثقافية نشطة مثل مكتبة الإسكندرية القيام بذلك وإتاحته للبحث العلمى؟