قصة البشر فى 300 ألف عام!
تفتقر المكتبة العربية إلى نوعية خاصة من الكتابة، وأقصد بها الكتب التى تقدم ما نسميه «التاريخ العام»، والتى تتناول فترات طويلة من الزمن، وتقوم برصد المعالم الرئيسية لهذه الأزمنة. ويزداد الأمر صعوبة عندما تعالج هذه الكتب الفترات الخاصة بعصور ما قبل التاريخ، وبدايات التاريخ القديم. ويرجع ذلك إلى ضرورة توفر خلفية علمية لدى الكاتب حتى يستطيع تناول القفزات الهائلة- بالنسبة لزمنها- التى قام بها الإنسان مثل: اكتشاف النار، واحتراف الزراعة، والتعامل مع المعادن. وبالقطع لا بُد من التطرق إلى موضوعات شائقة وشائكة مثل: أصل الإنسان ونظرية التطور.
ولحسن الحظ دلنى أحد الأصدقاء على أحدث كتاب صدر فى المكتبة العربية فى هذا المجال، وهو كتاب «٣٠٠ ألف عام من الخوف: قصة البشر من بداية الكون إلى التوحيد»، لمؤلفه جمال أبوالحسن، الذى لم أتعرف عليه من قبل. والحق أقول إننى فوجئت أولًا بسلاسة الأسلوب، والذى نطلق عليه السهل الممتنع، وهو أسلوب نادر فى مثل هذه النوعية من الكتابات، التى يتسم أسلوب كتابتها للأسف الشديد بالصعوبة فى القراءة والفهم. ولجأ الكاتب إلى حيلة ذكية ليعرض أفكاره فى سلاسة ويسر؛ إذ قدم فصول الكتاب على شكل رسائل موجهة إلى ابنته التى أصابها فيروس كورونا، فأراد أن يخفف عنها عامل القلق والخوف، على طريقة الآباء، بأن يحكى لها حكاية البشر. وأعتقد أن المؤلف نجح بامتياز فى هذا المجال «الحكى»، وتبسيط التاريخ والعلوم بشكل يجعلنى أرشح الكتاب ليكون ضمن مقررات القراءة فى وزارة التعليم.
ومن خلال عشر رسائل أو «حكايات» عن تاريخ البشرية قبل الديانات الإبراهيمية، يطرح المؤلف العديد من القضايا الكبرى بشكل مبسط؛ إذ يبدأ بسؤال الوجود، الذى ليست له إجابة: لقد روضنا كل شىء، لكن لم نروض أنفسنا، لماذا؟ كما يفاجئنا بأن أكثر الأماكن غموضًا على مر تاريخ البشرية، هو رأس الإنسان: ماذا بداخل أدمغتنا؟ ويبدأ المؤلف رحلة الحكى بالسؤال: نحن من أين إلى أين؟
يتحدث المؤلف عن تراكم الخبرة البشرية محدثًا ابنته: «لقد عشتِ على ظهر الكوكب عددًا محدودًا من السنوات، لكن بإمكانك أن تضيفى إليها ٣٠٠ ألف عام من التجربة البشرية».
من الموضوعات المثيرة التى يطرحها المؤلف بشكل يتسم بالعمق مع بساطة الأسلوب والعرض، مسألة نشأة «المجتمعات»، فالخوف هو عدو الإنسان، والإنسان لا يستطيع العيش بمفرده، لذلك يرى المؤلف أن المجتمع هو «أعظم إنتاجاتنا ومنبع قوتنا». كما يعالج المؤلف موضوعات طريفة بأسلوب علمى مبسط مثل: لماذا عبد الإنسان الشمس، ولماذا عبد النار؟ ويربط ذلك بذكاء بالحاجة المزمنة للإنسان حتى الآن إلى «الطاقة»، فالشمس والنار كانتا فى حقيقة الأمر مصدر الطاقة للإنسان القديم.
ويقف بنا المؤلف فى نهاية كتابه عند نشأة الديانات الإبراهيمية، وأشهد أنه يقدم تفسيرات عقلية رصينة لنشأة الأديان.
إنه كتاب يستحق القراءة لغرابة موضوعه وطرافته فى الوقت نفسه، وأيضًا لأسلوبه السلس.