تكفير الفن والثقافة
فى أكتوبر الحالى قام المحامى إبراهيم سعد برفع قضية حسبة ضد إحدى الشاعرات بسبب قصيدة ألقتها فى ملتقى أدبى، واتهمها بازدراء الأديان، ومثلت الكاتبة للتحقيق أمام النيابة التى قررت إخلاء سبيلها مقابل خمسة آلاف جنيه كفالة.
وبينما يتلقى الأدباء فى جميع أنحاء العالم مكافآت عما يكتبونه، فإن الأدباء عندنا يكتبون ويدفعون إما لدور النشر، أو للمحاكم! والمحامى صاحب الدعوى حلقة صغيرة فى سلسلة من التكفيريين محترفى رفع قضايا الحسبة لعل أشهرهم هو يوسف البدرى الذى رفع دعوى لتفريق د. نصر حامد أبوزيد وزوجته.
وهناك آخرون أيضًا نالوا حظهم من الشهرة فى ذلك المجال مثل نبيه الوحش وغيره. ولهذه القضية وجهان، الأول غموض نص القانون الذى يسمح بقضايا الحسبة واحتواؤه على عبارات فضفاضة مما أدى إلى اختلاف تطبيقه فى المحاكم، ولهذا حذرت المحكمة الدستورية العليا من ذلك عام ١٩٩٤ فأشارت إلى أن: «النص العقابى الغامض يشكل مخاطر بالغة الخطورة».
أما الوجه الآخر للمسألة، أعنى الثقافى والاجتماعى فإنه يتعلق بمواجهة الدين للفن والثقافة التى يفتعلها البعض للتحكم فى عقول البشر، وهى المواجهة التى بدأت عام ١٩٢٦ مع صدور كتاب طه حسين «فى الشعر الجاهلى» إلى عام ١٩٥٩ مع رواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» التى اتهمت بالتطاول على الذات الإلهية، ثم نصر حامد أبوزيد فى ١٩٩٢ واتهامه بالإلحاد، وهى معركة لم تتوقف، بحكم أن جذورها عميقة وبعيدة فى التاريخ الثقافى.
فى هذا السياق يحضرنى أن ترجمة قام بها صالح علمانى لإحدى روايات ماركيز تم منعها فى بلد عربى، لأن اسم المترجم «علمانى» ظنًا منهم أن كلمة علمانى إعلان عن توجهه!! هناك أيضًا كتاب صدر فى ٢٠٠٣ فى أكثر من ألفى صفحة بعنوان «الانحراف العقدى فى أدب الحداثة وفكرها» ومؤلفه د. سعيد بن ناصر الغامدى، ويوضح ذلك الكتاب مدى تغلغل النظرة التى تحارب الفن والثقافة بالتكفير، بل وتدعو إلى اغتيال المفكرين والفنانين، وفيه يقول المؤلف عن عدد هائل من الأدباء:
- «إن أقوالهم وأعمالهم وعقائدهم التى أذاعوها توجب الحكم عليهم بالردة، وترفع عصمة الدم عنهم»، ويبرر المؤلف حكمه برفع عصمة الدم قائلًا: «إن من أخطر وأشنع ما فعله أعداء الإسلام ما اتخذ فى زمننا هذا من أساليب ثقافية ظاهرها الأدب والشعر والثقافة والنقد وباطنها الكفر والشك والنفاق.. فإذا بالمسلمين يرون ويسمعون من ينادى بالكفر ويروج للرذائل الفكرية والخلقية علانية مرة تحت قناع (الأدب الحديث) ومرة تحت شعار (الثقافة الإنسانية) وأخرى تحت لافتة (التحديث ومجاراة العصر وتداخل الثقافات)».
ويقوم المؤلف بتكفير صريح لرواد الثقافة المصرية والعربية بدعوى أنهم سبب «الانحراف العقدى» بدءًا من رفاعة الطهطاوى إلى محمد عبده والأفغانى وطه حسين وقاسم أمين ولطفى السيد وصولًا إلى د. محمد مندور ونجيب محفوظ ومحمود درويش وأمل دنقل. ويكتب عن يوسف إدريس أنه «طبيب وأديب مصرى هلك سنة ١٩٩١»!
أصبح من الضرورة وقف عملية تكفير الثقافة بإلغاء صريح قاطع لقانون الحسبة وازدراء الأديان، وأيضًا بمواجهة فكرية واسعة لجذور تلك النظرة التى تفتعل الصدام بين الثقافة والدين. الجانب الذى قد لا ينتبه إليه أحد أننا حين نطالب بإلغاء قانون الحسبة والتصدى لتكفير الفنون والفكر، فإننا لا ندافع عن الثقافة فحسب، بل وندافع أيضًا وبالقدر نفسه عن صورة الدين الصحيحة حين نؤكد أن الدين ليس قيدًا على الإبداع وحرية الفكر كما يحاول المتطرفون تصويره وإلزام الآخرين بذلك التصور.