الطريق إلى نهضة التعليم المصرى «٢-٢»
نحتاج إلى التركيز على التعليم الصناعى مع تدريس العلوم الإنسانية فى الكليات التطبيقية كمواد إضافية مساعدة
تدريس الفلسفة فى كل السنوات الدراسية يساعد على الوعى بالعالم ومكافحة التطرف الفكرى
مؤتمر لمناقشة أوضاع التعليم قد يكون ضروريًا بعد المؤتمر الاقتصادى والحوار الوطنى
تطوير التعليم الدينى ضرورة واجبة وهو التمهيد لإصلاح الخطاب الدينى
الخطابات السائدة عن التعليم منذ عقود عديدة من القرن الماضى، وإلى الآن، تركز على بعض التفصيلات، والجزئيات، وما حولها يركز على بعض اهتماماته دون غيرها، مثل ارتفاع تكلفة التعليم، وتعدده إلى أنظمة متعددة، أو الدروس الخصوصية ومراكزها، أو الكتب المثقلة بالحشو والتكرار، أو تعليم الحفظ والاستظهار، أو نقص المدرسين والمعلمين فى المدارس، أو عدم كفاءة غالبيتهم، وفشل الإدارة التعليمية، أو تديين الشروح لمناهج من المدرسين، والمدرسات، ذوى التوجهات الدينية والسلفية.. إلخ.
ثمة عدم اهتمام سائد ومسيطر على الانفصال بين مشكلات التعليم، والواقع الاجتماعى المتغير.
فى التنشئة السياسية للطلاب والطالبات غالبًا ما تنزع نحو ثقافة الخضوع، والامتثال والاتباع والانصياع للسلطات السائدة وأيديولوجيتها إن وجدت، أو إلى خطابها السياسى والاجتماعى، وهى تنشئة ترمى إلى تعبئة الجموع الغفيرة جميعًا، ومعها طلاب المدارس بكل مستوياتها، فى ظل انهيار الأيديولوجيات الكبرى، ومعها أيديولوجيات النظم الشمولية والتسلطية فى العالم العربى، بات الخطاب السياسى والاجتماعى ضعيفًا، وقدرته على التأثير فى عمليات التنشئة السياسية محدودة، ومعه خطاب الأحزاب السياسية الموالية والمعارضة، ومرجع ذلك عدم فعالية هذه الأحزاب، مقارنة بنظام الحزب الواحد التعبوى، أو الحزب القائد والمسيطر فى ظل التعددية الحزبية السياسية على نحو ما كان سائدًا فى ظل الناصرية- الاتحاد الاشتراكى العربى- وفى ظل السادات منبر الوسط، ثم الحزب الوطنى الديمقراطى!
الآن لم تعد الأحزاب السياسية تلعب دورها فى مجال التنشئة السياسية لفقدانها قواعد اجتماعية داعمة لها، ومعبرة عن مصالحها فى الحياة العامة، ولا نقول السياسية فى غالب البلدان العربية، من ناحية أخرى ضعفت عمليات التنشئة السياسية وخاصة فى ظل ظاهرة موت السياسة الممتدة، والتعدى على المجال العام السياسى، وتمدد ظواهر الإسلام السياسى، وتديين اللغة اليومية والثقافة الدينية النقلية المحافظة، وخطاباتها الدعوية والسياسية. من ناحية ثانية غياب المكون الثقافى فى سياسة التعليم، ومناهجه المختلفة، الذى يواجه الفكر الدينى المتطرف، والمحافظ بالعقل النقلى الحر للطلاب والطالبات من خلال ثقافة السؤال والحرية العقلية، والقدرات التحليلية للطلاب من خلال المناهج المقررة، إحدى المشكلات تتمثل فى غياب ثقافة ما كان يطلق عليه «الرحلات المدرسية» التى تراجعت، سواء إلى المتنزهات أو إلى المتاحف، والمناطق الأثرية كجزء من الاطلاع على التراث المادى للأمة المصرية، وتحفيز الذاكرة التاريخية للطلاب، وترسيخ قيم الوطنية القومية المصرية، والانتماء الوطنى ومعها المواطنة، وعدم التمييز لأن التراث المادى هو إبداع الشعب/ الأمة فى مراحل تاريخية متعاقبة.
- من مشكلات التعليم المصرى والعربى، شيوع وسطوة ثقافة وسائل التواصل الاجتماعى وميلها إلى لغة مختصرة، وإصدار الأحكام البسيطة والسطحية على الظواهر والآراء، والشخصيات العامة، وأيضًا سطوة لغة الصور السريعة والفيديوهات الطلقة، وبعض الصور الإباحية التى تؤثر فى القيم الاجتماعية المتهتكة أصلًا فى الواقع الفعلى، وسطوة الأكاذيب والأخبار الكاذبة والمعلومات الخاطئة والإشاعات والأساطير السائدة وسط الجموع الغفيرة، هو ما أدى إلى عدم التركيز على الدرس المقرر، خاصة مع النظرات الومضة على وسائل التواصل الاجتماعى، وهو ما أدى إلى ضعف عمليات التعلم ومعها دور المدرس والمدرسة، وميل الطلاب إلى التبسيط الشديد، وتداول ما يتم على وسائل التواصل الاجتماعى، دونما فحص أو تمحيص للمواد المتداولة.
لم تستطع السياسة التعليمية أن تحدث تطورًا هامًا وملموسًا فى توظيف الرقمنة فى العملية التعليمية، بالنظر إلى المشاكل المتراكمة، وإعاقة جماعة المدرسين لها لمساسها بمصالحهم، وأيضًا لتكوينهم السطحى والهش!
انقسام النظام التعليمى العام إلى تعليم مدنى، تعليم دينى، هو ما يؤدى إلى انقسام العقل والوعى العام، بين كلا النمطين من التعليم، خاصة أن التعليم الدينى يبدأ من المرحلة الابتدائية بالمعاهد الأزهرية إلى الثانوى الأزهرى، ثم جامعة الأزهر، وهو ما يكرس الازدواجية، والتناقض، والصراع، على الرغم من تأثير الفكر الدينى المحافظ على مناهج التعليم العام إلى نحو ما أشرنا إليه سابقًا.
ثورة وسائل التواصل الاجتماعى الرقمية أدت إلى مشاركة الأجيال المختلفة من الطلاب فى عالمها، وإجادة استخدامها، ومعها لغتها التى تتسم بالإيجاز الشديد فى الكتابة للمنشورات، والتغريدات وفى القراءة السريعة جدًا، والخاطفة، وأيضًا فى قراءة منشورات أطول نسبيًا، من تلك التى اعتادوا عليها، وهو ما أثر سلبًا على عملية قراءة الكتب والمواد المقررة فى المدرسة، ومن ثم استيعابها!
اللغة المحكية، فى وسائل التواصل الاجتماعى تسيطر على الكتابات والتعليقات على المنشورات، وهو ما أضعف اللغة العربية، وممارستها فى ظل تدهورها فى الدرس فى المدرسة، وضعف مستويات المدرسين والمدرسات فى اللغة العربية، واعتمادهم على اللغة العامية فى الشرح، وهو أمر بالغ الخطورة على اللغة القومية، ومن ثم على الهوية، فى ظل انتشار تعلم اللغات الأجنبية، لاسيما الإنجليزية والفرنسية والألمانية فى المدارس الخاصة.
إن تدهور مستوى تدريس اللغة العربية وقواعدها فى المدارس يرجع إلى جمود اللغة والمفردات التى تستخدم من بعض واضعى المناهج المقررة، واختياراتهم، «ذات اللغة الخشبية»- وفق الوصف الفرنسى الشهير- للقطع الأدبية والأمثلة.. إلخ! والميل إلى اختيارات دينية لتعليم اللغة، وليست من أجمل وأبلغ النصوص فى الشعر، والنثر العربى التراثى، أو النصوص الحديثة والمعاصرة، ولأهم الكتاب، بل ونسيان أن السرد، والشعر العربى منذ عقد الستينيات إلى السبعينيات مختلف، ويطرح قضايا الإنسان المصرى، وهمومه فى هذه المراحل، ثم فى أعقاب الثمانينيات والتسعينيات حدث تطور نوعى فى السرديات، والانتقال من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، هذه التحولات لا تجد لها صدى فعالًا لدى بعض واضعى المناهج، لأن لهم مواقف نقدية، ومدرسية محافظة، وبعضها معاد لهذا التطور، لأنهم لا يزالون عند الذائقة التراثية للشعر، والنثر! من ثم يشكل هؤلاء عائقًا إزاء تطور اللغة العربية، ويتناسون أن الأدب الحى، يساهم فى تطوير نظام اللغة ومفرداتها، واصطلاحاتها، ومجازاتها. من ناحية أخرى عدم المساهمة فى تطوير النظام النحوى المعقد الذى يحتاج إلى تيسير؛ لتسهل دراسته من الطلاب والطالبات.
المدرسة تشكل مختبرًا أساسيًا لتعليم اللغة وآدابها، موروثها، وحديثها، ومعاصرها، وكل التجارب الأدبية فى صياغات بليغة، وميسرة فى آنٍ واحد، لأن الطلاب والطالبات بحاجة للتعرف على لغتهم القومية من خلال مصادر وآيات الجمال والبلاغة داخلها، وعلى الكبار الذين ساهموا فى إثرائها، وتطويرها. فى المرحلة شبه الليبرالية، كان الكتاب الذى يدرس المنتخب من أدب العرب لمؤلفيه أحمد الإسكندرى، وأحمد أمين وعلى الجارم وعبدالعزيز البشرى وأحمد ضيف، وهو كتاب كاشف عن ذائقة مؤلفيه واختياراتهم، رغم أن غالبهم من ذوى النزعة المحافظة! لكنها ذائقة متميزة. فى بعض مراحل نظام يوليو ١٩٥٢، كانت المقررات والاختيارات الشعرية، شعاراتية حول شعارات النظام الأيديولوجية، وكانت بعض النصوص المقررة لكبار مفتشى اللغة العربية، ولم تكن ذات مستوى مع كبار شعراء العربية.
تراجع بل وتردى مستوى العربية وتدريسها، ومعها أساتذة اللغة العربية، يكشف عن اللامبالاة بالمكون الثقافى فى المناهج التعليمية المقررة، ويشكل تهديدًا للوعى، والهوية الثقافية للطلاب والطالبات فى كل مراحل التعليم العام، والتعليم الأزهرى أيضًا، وأيضًا!
كتابة التاريخ المصرى ومراحله، وتاريخ العالم العربى، وكذلك التاريخ العالمى، هى أحد أبرز المكونات الثقافية فى مناهج التعليم، لكن ما يجعلها ضعيفة أنها كتابة من منظور السلطة السياسية فى أعقاب نظام يوليو ١٩٥٢، وتحدث تغيرات مع تغير القيادة السياسية، وتتحول الأوصاف، والانتقادات، بعد الإشادة، والمديح من رئيس لآخر للجمهورية، والأخطر المواقف من التغيرات التاريخية من عهد محمد على وأسرته إلى النظام شبه الليبرالى، وهو ما يؤدى إلى تشويه الوعى التاريخى للطلاب، والطالبات، ويكرس المقولات الشعاراتية، والأحكام العامة غير الدقيقة، ويجذب ميل الطلاب إلى نمط الإجابات الجاهزة، والمحفوظة حول تاريخ بلادهم!
كانت المدارس تاريخيًا، تهتم بمجلات الحائط، وبعض المجلات المطبوعة، وهو ما كان يعكس الاهتمام بالثقافة، فى حدود هذه المجلات، وبدور الطلاب فى مجلات الحائط، مثل هذا التقليد لم يعد ثمة اهتمام به عمومًا، لأن المدرسين، والإدارة المدرسية، بل وزارة التعليم لم تعد مهتمة بالمكون الثقافى فى العملية التعليمية.
غالب المدرسين يرتكز اهتمامهم على الدروس الخصوصية، وجذب التلاميذ والتلميذات والطلبة والطالبات إلى مراكزهم أو إلى دروسهم الخصوصية.
فى عالم الثورة الصناعية الثالثة والرابعة، حدثت اكتشافات علمية، وتقنية جديدة، لم تحدث من قبل، لكن مثل هذه الأمور لا نجد فى الغالب عنها شيئًا فى مناهج التعليم، إلا قليلًا جدًا، وسطحيًا على نحو غير مألوف عالميًا فى مناهج التعليم فى غالب دول العالم.
لا شك أن هذا الغياب يكرس الفجوات فى العقل والوعى بين تخلف بلادنا التاريخى، وبين الدول المتقدمة، وفائقة التطور، ويكرس الوعى بتخلفنا لدى الطلاب والطالبات بينما يعيش غالبهم فى هذا العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعى لمن أراد أن يعرف كيف يعيش الآخرون فى العالم الأكثر تطورًا!
لا شك أيضًا أن غالبية التلامذة والتلميذات، الطلبة والطالبات، على الواقع الافتراضى يعيشون حياتهم الافتراضية ربما أكثر من الواقعية، لكنهم سادرون فى عالمهم المحلى بين زمر الرفاق، أو بعض الأقرباء، أو زملاء الشارع، والحارة، والحى والقرية.. إلخ! باستثناءات من يدرسون الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، من المدارس الخاصة ممن يمتلكون بعضًا من الاهتمامات المغايرة، ويتواصلون مع آخرين خارج بلادهم بهذه اللغة أو تلك، ومن ثم يطلعون على ما يجرى بين نظرائهم فى بلدان أخرى.
ثقافة وسائل التواصل الاجتماعى باتت مهيمنة على عقول وإدراك واهتمامات الأطفال، والصبية، والمراهقين فى المدارس الخاصة والأجنبية.. لأبناء الأثرياء والطبقة الوسطى.. والمدارس الحكومية.. إلا أن هذه الثقافة تعكس عالم السرعة الفائقة، الأخبار وقت حدوثها، والمنشورات، والتغريدات الأخيرة، والفيديو الطلقة، من ثم نحن إزاء ثقافة الاستهلاك السريع مثلها فى ذلك مثل الوجبات السريعة ذات الأصول المستمدة من الحياة الأمريكية، مثل الماكدونالدز- مكدلة العالم- وغيرها، والتى أصبحت جزءًا من ثقافة الأكل المحلية والوطنية! استهلاك الصور، والفيديوهات الطلقة السريعة، هو تعبير عن النمط الجديد من ثقافة الترفيه، والاستعراض الومضة، والاستهلاك المفرط، من عالم الأشياء إلى عالم الثقافات، وتراجع التلقى والتمثيل المعمق للمقالات والكتب والتعليقات النقدية، وبروز سلطة القارئ التى كتب عنها رولاند بارت، مع موت المؤلف هل سنصل إلى مرحلة موت القارئ مع المؤلف نظرًا لتراجع دور القارئ القديم!
يبدو أن ذلك مرجح فى التطورات المستقبلية، وذلك نظرًا لقفزات الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى، مع ذلك سيظل هناك دور لسلطة القارئ مع بقايا بعض الجماعات القرائية، من كبار السن ومن جيل الشباب، لاعتبارات تتصل بالغواية والشغف القرائى لديهم، إلا أن استمرارية هؤلاء تبدو سؤالًا معلقًا على زمن السرعة الفائقة، والرقمنة والذكاء الاصطناعى.
ثقافة الاستهلاك الرقمى المفرط ستسيطر على العملية التعليمية خارج المدارس، نظرًا لعسر تكيف جماعة المدرسين مع الرقمنة، واعتراضهم عليها لاعتبارات عسر تعلمهم لها، والأهم لأنها تصطدم بقوة مع مصالحهم فى الدروس الخصوصية.
من هنا ستسيطر ثقافة الرقمنة على عقول جماعات الطلاب والطالبات، والتلاميذ والتلميذات، فى توازٍ مسيطر على عملية التعليم السائدة فى المدارس، ومراكز الدروس الخصوصية، ومدرس هذه الدروس الخاصة خارج السيطرة.
لن تستطيع المدرسة، ولا جماعة المدرسين، ولا الأسر أن تسيطر على الثقافة الرقمية الاستهلاكية السريعة، ولا مواقع تحرك الطلاب، والتلاميذ عبرها، ومن ثم أدى ذلك، وسيؤدى إلى تبنى قيم جديدة ابنة عصرها، تغاير، وتصطدم مع الفوضى القيمية السائدة فى الواقع الفعلى، لكنها فوضى إعصارية، ستعصف بفوضى الواقع الفعلى فى الحياة الواقعية، وستفرض نفسها كسلطة قيمية جديدة، لن تستطيع مؤسسات الفلسفة الاجتماعية أن تسيطر عليها.
من الشيق ملاحظة أن أثر الذكاء الاصطناعى على الأجيال الجديدة لا يزال بعيدًا وبطيئًا، لدى بعضهم، والاستثناءات محدودة جدًا لمن يفهمونه ويتعاملون معه فى الوقت الراهن وربما الأجيال المتوسطة، والبعيدة، إلا أن المرجح أن الذكاء الاصطناعى سيؤثر على هذه الأجيال صغيرة السن مستقبلًا.
ثقافة الذكاء الاصطناعى، ستلعب فيها الروبوتات دورًا مهمًا فى التعليم والتلقى، ومخرجاته حيث سيغدو الروبوت فى مرحلة الأناسة الروبوتية أحد مراكز التعلم الأساسية، سواء فى المدرسة، أو المنزل أو المقهى أو الحديقة فى تقديم المناهج المقررة، والأهم دوره فى الإيجاز، والبلورة، والاستنتاج، والتحليل، بل فى التعاطى مع التباينات فى مستويات الذكاء بين الطلاب والتلاميذ، فى شرح الدروس.
إن ثقافة الأناسة الروبوتية ستغدو مغايرة لما ألفناه فى عالم الحداثة وما بعدها، وما بعد بعدها، ومعها مدارسها السوسيوسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والسوسيو فلسفية، وفى الفنون، والموسيقى والغناء، سيدخل الروبوت طرفًا فاعلًا، ويمكن القول مبدعًا فى المستقبل فى التفكير، والإبداع، وهو ما سوف يؤثر على الأدوار الإبداعية للإنسان! سيعتمد أطفال وصبيان، وشباب المستقبل على الروبوت وسيتنافس جميعهم وسيتفاعلون معًا، وهذا لا يعنى نهاية الذكاء الإنسانى، لكن ذكاء الروبوت سيشكل تحديًا، ومحفزًا للذكاء البشرى، وفى ضوء ذلك، سيتحدد وضع الإنسان فى الوجود كله، والمرجح التحول إلى ما بعد الإنسان!
مثل هذه الأسئلة ليست مطروحة فى الفراغ، أو جزء من عوالم افتراضية، أو تمرينات ذهنية، لكنها بعض من هموم العقل والثقافة الإنسانية على تعددها وتنوعها الخلاق! أسئلة تبدو غريبة بالنظر إلى تمركزنا الماضوى على قضايا ذات طابع دينى تاريخى، وسردياتها، وتأويلاتها الوضعية، نظرًا لسطوة العقل الدينى النقلى الوضعى، ومداراته المغلقة، وسياجاته الرمزية، وقيوده، وغربته عن زماننا ومستقبلنا! وأسئلة عصرنا، وعوالمها المتغيرة، والتى ستفرض تحديات هائلة على هذا العقل المغلق ومؤسساته الدينية، واستخداماته الوظيفية والسياسية فى التعبئة الاجتماعية والضبط السياسى!
أسئلة الحاضر الكونى الجديدة، وارتباكات الإجابات تبدو غائبة عن السياسات التعليمية، ومناهجها المقررة، وعمليات تدينيها فى الكتابة المقررة وشروحها لدى المعلمين!
من هنا يبدو السؤال ما العمل؟ الأوضاع الراهنة، وتراكمات الماضى، تشير إلى تعقد إمكانيات الحل، ووضع سياسات تعليمية مغايرة تثوّر الأوضاع الراهنة كلها!
حيث سيقف ضد التطوير، والتثوير المدرسة الراهنة، وجماعة المدرسين، والإدارة، بل ومراكز القوة داخل وزارة التعليم، والأهم المجتمع- وأولياء الأمور الذين يشكلون قوة ضغط هائلة إزاء التغيير، لأنهم أول من سيصدمون بسياسات تعليمية مختلفة.
نقطة البدء الإرادة السياسية الحازمة، على تثوير السياسة التعليمية على نحو متدرج، وليس بطيئًا، من خلال ما يلى:
١- مؤتمر وطنى حول مشكلات النظام التعليمى فى كل جوانبه، وتشارك فيه مجموعة محدودة من كبار الخبراء، والمفكرين، وتقدم فيه تجارب تطوير التعليم فى العالم فى أوروبا، والولايات المتحدة، وآسيا فى اليابان والصين وإندونيسيا، وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وإسرائيل.
٢- دراسة الأوضاع المختلفة لسوق العمل واحتمالات تغيرها، وتحولها، وعلاقة ذلك بأنماط التعليم المطلوبة، وهو ما يعنى التركيز على الرقمنة، والذكاء الاصطناعى، والتطوير الصناعى، والصناعات الزراعية، ويترتب على ذلك ضرورة إعادة هيكلة النظام التعليمى العام والجامعى، وفق هذه المتطلبات أسوة بدول أخرى فى عالمنا.
٣- إعادة النظر فى كليات الدراسات الإنسانية من حيث المناهج، ونوعية ومستوى الأساتذة، وإعداد الطلاب بما يتفق مع التغيرات الكبرى فى عالمنا التقنية، والفلسفية، والمنهجية، وفى القانون، والآداب، والفنون فى ضوء الثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى، ومتابعة مثل هذه الدراسات على المستوى الكونى.
٤- إدخال الفلسفة فى كل مراحل التعليم العام والجامعى، مع متابعة تطورات الفكر الفلسفى، والسوسيولوجى عالميًا، وهو ما يتطلب إعداد ورش عمل، وإعادة تأهيل للمناهج، والمدرسين، والكتب المقررة. دمج الفلسفة فى مراحل التعليم، يعنى الانتقال من التنشئة على تكوين العقل النقلى إلى العقل النقدى، مع الفكر والنظريات السوسيولوجية.
٥- تغير نوعى فى الدرس الدينى، من سرديات الأزهريين النقلية المحافظة إلى إعداد مناهج يتم إعدادها من متخصصين غير أزهريين، تعتمد على كتابات المجددين فى الفكر الدينى المصرى، والعربى والإسلامى، والتركيز على الدرس التاريخى للفكر الدينى، وسردياته التاريخية.
٦- دمج المكون الثقافى فى العملية التعليمية، من السينما والموسيقى، للآداب، والفنون، والقانون ضمن المناهج الدراسية، مع استمرارية التحول الرقمى للعملية التعليمية، ومواجهة عصب الدروس الخصوصية، وتجريم العمل بها!
٧- تدريس المنطق لطلاب المدارس جميعهم.
٨- دمج التعليم العلمى إلى جانب العلوم الإنسانية.
إن نظرة على ما سبق تعنى ضرورة الإرادة السياسية والعزم على مواجهة عوائق تطور مصر، ومستقبل الأجيال القادمة، ومحاولة ضبط الانفجار فى الوالدية بكل الأساليب، لأن الانفجار السكانى فى بلاد تعليمها متخلف، يشكل مراكز تدمير للبلاد، ومستقبلها، خاصة فى ظل هيمنة فكر دينى تقليدى، يحاول إرجاع المصريين إلى عصور مظلمة! ولله الأمر من قبل ومن بعد!