الاستعمار والحداثة «2-2»
من المهم نقد وتفكيك بعض المقولات الشائعة عن الدور التنويرى للحملة الفرنسية، ومن أهم هذه المقولات: إن الحملة أنشأت أول «برلمان» فى مصر، والمقصود به «ديوان القاهرة» الذى جمع أعيان البلد مع بعض الفرنسيين للتشاور فى الأمور الإدارية للحياة اليومية فى القاهرة. فى حقيقة الأمر كان الديوان، ومن خلال سجلاته، أبعد ما يكون عن فكرة «البرلمان»، إنما كان محاولة من الفرنسيين لتمرير قراراتهم من خلال موافقة أعيان البلد عليها. الأكثر من ذلك أن السلطات الفرنسية علقت أعمال الديوان فترات طويلة نتيجة ثورة أهل القاهرة عليهم. والحق إذا كنا نوَّد الحديث عن بدايات الحياة النيابية فى مصر، علينا الانتظار حتى عام ١٨٦٦ ونشأة مجلس شورى النواب فى عصر إسماعيل.
وهناك مقولة أخرى شاعت فترات طويلة وهى: «جاءت الحملة الفرنسية بالمدفع والمطبعة، ورحل المدفع بعد ذلك وبقيت المطبعة». والمقولة فى حقيقة الأمر تعترف فى جزء منها بالطابع الاستعمارى للحملة «المدفع»، لكنها تنتمى فى الوقت نفسه إلى الاتجاه الذى يركز على «الجوانب الإيجابية» للفترة الاستعمارية، وهو اتجاه قديم فى الفكر الأوروبى، خاصة الفكر الفرنسى، وهناك جدل شديد حول هذا الأمر، لا سيما حول التجربة الفرنسية فى الجزائر.
وبالقطع هناك آثار سلبية وأخرى إيجابية لكل حدث تاريخى، حتى الاستعمار نفسه، لأن من مصلحته النهوض بعض الشىء بالبلد المُستَعْمَر حتى يستطيع أن يستمر فى حكمه. لكن المشكلة فى حقيقة الأمر تنبع من المبالغة فى الآثار الإيجابية التى ترتبت على أى استعمار، وفى حالتنا هنا هى الحديث عن رحيل المدفع وبقاء المطبعة. فى الواقع رحل المدفع ورحلت المطبعة أيضًا، وكانت المطبعة فى حقيقة الأمر جزءًا من أدوات الاحتلال فى طبع الأوامر والمنشورات الحكومية لإدارة البلاد، وإذا كنا نريد التحدث بحق عن بدايات واقعية لدخول المطبعة والطباعة إلى مصر فعلينا الانتظار قليلًا، حتى عصر محمد على ونشأة المطبعة الأميرية فى القاهرة، والتى ما زالت تُعرف بنفس الاسم حتى الآن. أما إذا كنا نقصد المعنى المعنوى لبقاء المطبعة، أى بقاء الثقافة الفرنسية، فإن هذا الملف يحتاج إلى بعض التدقيق؛ إذ يشير البعض إلى دور علماء الحملة الفرنسية، خاصة فى إخراج كتاب «وصف مصر»، الذى يعتبر بحق من أهم المصادر التاريخية عن مصر.
بدايةً لا بُد من الإشارة إلى أن هؤلاء العلماء كانوا جزءًا من تركيبة الجيوش الحديثة آنذاك. الأمر الآخر أن زيادة أعدادهم فى جيش الحملة تعود إلى حلم بونابرت بتكوين إمبراطورية شرقية على نسق حلم الإسكندر الأكبر، لذلك كان من المهم اصطحاب كتيبة العلماء لدراسة هذا الشرق، ورسم صورة له، من أجل وضع سيناريو لحكمه. ومن ناحية أخرى لا يمكن إنكار الولع الفرنسى بالشرق، خاصة مصر، التى وردت حكايتها فى الكتاب المقدس، هذا فضلًا عن بدايات علم الاستشراق، من هنا رحب الكثير من العلماء بالانضمام إلى الحملة. والمثير فى أمر علماء الحملة الفرنسية أن العسكريين الأقحاح فى الحملة كانوا ينظرون بسخرية إلى هؤلاء العلماء ويطلقون عليهم «الحمير»، لكن كل ذلك لا يُنكِر أهمية كتاب «وصف مصر» الذى صدر بعد سنوات طويلة من خروج الحملة الفرنسية من مصر.
ويعتبر مشروع إنشاء قناة لربط البحرين المتوسط والأحمر من المشاريع المهمة للحملة، لكن هذا المشروع توقف فى زمن الحملة، نتيجة حسابات خاطئة عن مناسيب المياه فى البحرين.
ولم يأتِ هذا المشروع من فراغ، وإنما هو امتداد لحلم قديم منذ عصور الفراعنة لربط البحرين عن طريق قناة تربطهما بنهر النيل، واستمر هذا المشروع فى العصر الإسلامى، ثم تجلى فى المشروع الفرنسى لربط البحرين مباشرة وليس عن طريق نهر النيل. وعلينا الانتظار حتى عصر سعيد باشا، عندما يقدم ديليسبس مشروعه الجديد لحفر قناة السويس.
أما عن «الولع المصرى» بالثقافة الفرنسية فهو أمر مهم، واستمر ربما طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين، حتى أطاح به الولع بـ«الحلم الأمريكى»! وفى رأينا أن الولع المصرى بالثقافة الفرنسية لا يعود إلى الحملة الفرنسية بقدر ما يعود إلى عوامل أخرى، وتأتى فى مقدمة هذه العوامل البعثات التعليمية فى عصر محمد على، ونشأة حركة الترجمة، واستقدام محمد على العلماء الفرنسيين، وبعضهم خدم فى جيش الحملة. أمر آخر وهو علو الثقافة الفرنسية فى أوروبا والعالم طيلة القرن التاسع عشر، يضاف إلى ذلك أمر متعلق بالحالة المصرية، وهو أن المصريين- وبعد خروج الحملة الفرنسية- انتهت علاقتهم بالوجه الاستعمارى لفرنسا، بل أصبحت باريس هى عاصمة الثقافة والحرية، خاصةً مناصرة فرنسا الحركة الوطنية المصرية لا سيما فى فترة مصطفى كامل نكايةً فى الاحتلال البريطانى لمصر. وربما من المهم إجراء دراسة مقارنة عن صورة فرنسا لدى النخبة المغاربية، ولا سيما الجزائرية منها، وهنا تكمن المفارقة بين صورتين لفرنسا.