إلامَ ننحاز؟.. وإلى من ننحاز؟
ففي قضية (الدكتورة الراقصة) التي طفت على السطح منذ عام ٢٠١٧ وتم اتهامها - شعبيًا وبحكم العرف - الذي يقوى على القانون في أغلب الاحوال والتي قد صدر مؤخرًا قرارًا نهائيًا بعزلها من الجامعة ولا تعليق على قرارات الجامعات ولوائحها الداخلية فهو شأن لا يعنينا.
أما ما يعنيني أنا في الأمر.. أنه ومع بداية تلك القضية تم التعامل معها بشكل غير سليم وغير احترافي، وكأنّ المعنيين بالشأن كانوا عرضة للضغط والابتزاز الشعبوي ممن حولهم باسم الفضيلة.
وأذكر أن عميدة الكلية قامت آنذاك ومع بداية تلك الأزمة بدور الواعظ والداعية، لا المسئولة الإدارية، وآثرت أن تكون راعية للفضيلة لا عميدة لكلية تدرس العلوم والآداب.. مع أن العلم هو الفضيلة الكبرى التي هي الأولى والأحق بالغيرة عليها والانتصار لها وهذا ما أدهشني وأحزنني.
فتصريحات العميدة من سنوات بشأن تلك القصة البائسة والمفتعلة أعلت فيها وللأسف من شأن ما ليس لنا به أو فيه شيء، في حين أغفلت وذيلت ما هو حقًا مهم ويستحق الوقوف عنده والاحتكام إليه في تحويل الدكتورة للتحقيق أو حتى فصلها، وأصبح الشيء الجوهري شيئًا ثانويًا ولا علاقة له بالسمعة الحسنة، في حين أنه وفي حقيقة الأمر هو عين ولب سمعة الأستاذ الجامعي، فقد صرحت عميدة الكلية للصحف مع بداية الأزمة بأن مستوى نتائج الطلبة الذين تشرف عليهم من أحالتها للتحقيق وفصلت مؤخرًا - لأنها ترقص وتحتسي الخمور وترتدي المايوه - متدن للغاية، وأن نسبة النجاح لدى طلابها لم تتعد الـ٣٠%.
وهذا هو الشأن الأهم الذي ينبغي أن ينشغل الرأي العام به وتوليه الجامعة كذلك اهتمامها، فالجامعة دورها تعليمي ولم تجعل للتهذيب والإصلاح، ورغم ذلك تم الانحياز لما لا يفيد ولا ينفع، وغض الطرف عما يعنينا جميعًا اليوم وغدًا وهو مستقبل ومستوى النشأ راعي المستقبل ورهانه الأكيد.
وبالتالي خسر الجميع في تلك القضية وانتصرت الشعبوية ففصلت من أرادت فصلها، أما معركة العلم وهي - المعركة الحقيقية - فلم تربح شيئًا وتم دفع الجميع والزج بهم لتلك المعركة الخاسرة، وحدث سجال ونضال مجاني تمخض عن لا شيء، مجرد ضجيج وطنين ولا طحين.
ويبقى الرابح الحقيقي الأول والأخير في تلك القضية - سواء على المدى القصير أو البعيد - هو الهوي السلفي الذي يحط من شأن الفرد والحياة والقانون لصالح الأعراف وادعاء الفضيلة، حتى الأستاذة المتهمة بالرقص فقد تحقق لها - ربما - ما كانت تصبو إليه واجتهدت من أجله، وعملت عليه بدأب واستبسال منقطع النظير طوال سنين لا تكل ولا تمل، حتى أصبحت في يوم وليلة حديث الساعة وحديث المدينة بل والمدن التي زفت إليها بالمناصرين من هنا ومن هناك.
وتصدرت أخبارها وسائل الإعلام والتقت السفير الإسرائيلي لا أعرف بأي صفة أو لماذا! وهي تعلم جيدًا - وهي على حق في هذا - أن الإعلام وأضواءه لن يلتفتوا إليها إلا بهذه الطريقة، فإنجازها العلمي لن يثمن ولن يلتفت إليه أحد على العكس تمامًا من جسدها وسلوكها غير المعتاد بالنسبة للعامة، فنُسجت لها الهاشتاجات وصممت لها الصفحات التضامنية واللافتات - التي سيلتفت إليها الغرب حتمًا، فالغرب لا يمكنه فهم أو استيعاب فكرة أن تحول أستاذة جامعية للتحقيق في اتهام يمس شيئا غير الأداء الوظيفي والذمة المالية.
وبالتالي يكون اللجوء للغرب والعيش على أراضيه حتى آخر العمر متاحًا وغير عصي، وستستحقه وعن جدارة الأستاذة الجامعية المفصولة بعد أن تحولت في يوم وليلة لمناضلة وبطلة وشهيدة ضاق بها وعليها المجتمع في شأن لا يعنيه، فالمجتمع والناس"غير ذي صفة"، وهذا توصيف قانوني لا يعترف به الجمع الغفير من الناس ممن يحكمون على غيرهم، وكأنهم هم القانون وغاب عن بلادنا الفكر التقدمي الذي يحترم ويعلي من شأن القانون.
ثم عادت ورشحت "الدكتورة الراقصة" نفسها لرئاسة الجمهورية، بعد أن عرفت الطريق "طريق الأضواء والشهرة" وأن تكون حديث الصحف ووسائل الإعلام، وأن الرقص ولفت الأنظار بأداءات غير مألوفة أو مقبولة مجتمعيًا هو سبيلها للوصول للشهرة، وإن خفتت الأضواء عنها قليلًا ستعود الصحف لتكتب عنها بوصفها (الدكتورة الراقصة) التي تترشح للرئاسة من أجل "تدليع الشعب" الذي لم يجد من يدلعه!! - هكذا قالت المرشحة حرفيًا - ووعدت الشعب بأنها هتلاقيه لأنها لن تستطيع أن تغذيه.
وهكذا سفهت - وإن لم تقصد أو تتعمد - من فكرة ترشح امرأة للرئاسة في عام المرأة ٢٠١٧، وهو هدف وتوجه كان من الأجدى والأجدر أن يتم التعامل معه بطريقة أكثر جدية، وألا يصبح ترشح المرأة لكرسي الرئاسة مادة للسخرية أو الضحك أو الاستهزاء، ومن ثم الاستهتار بالفكرة وإضاعة الفرص الحقيقية على من تريد بالفعل الترشح لهذا الكرسي، بناء على معطيات ومعايير أكثر جدية وأكثر إقناعًا للجماهير لكسر التابو الذي يلاحق المرأة في بلادنا وفي الشرق عمومًا.
ذلك التابو الذي صنعه المجتمع الشرقي، وغذاه التيار الديني المتأسلم والذي يتكئ دومًا وحتمًا على نماذج مثل "الدكتورة الراقصة" وغيرها ليعود ويكرر بل ويرسخ لخرافاته القائلة بعدم فلاح أمة ولت عليها امرأة! ثم التأكيد على التأويل الخاطئ والكريه لمقولة "النساء ناقصات عقل ودين" والدكتورة الراقصة نموذجًا.
وهكذا تكون قد قضت - دون قصد ربما - على أي فرصة جادة لترشح المرأة لمنصب رفيع، أو على أقل تقدير نستطيع القول بأنها عرقلت هذه الخطوة وجعلت فرص نجاح المرأة - المحدودة بالفعل - تطول وتصبح أكثر محدودية.
أما قضية الصحفي والذي اتهمته – المتهمة - بالسطو على صورها التي لم تحافظ هي على خصوصيتها وجعلتها وجعلت فيديوهاتها (بابليك) أي على المشاع على مواقع التواصل الاجتماعي، فأسقطت عن الصحفي تهمة السطو على ممتلكاتها الخاصة، ليقع الصحفي في براثن تهمة أعمق وأخطر بكثير، رسخ وشرع لها عراب الصحافة المصري الخالد الذي علم الصحفيين - ولأجيال طويلة - أن ينساقوا وراء نوعية معينة فقط من الأخبار على شاكلة الخبر الذي يخبرنا بأن "رجل عض كلب" كنموذج أخاذ للجذب والإثارة، أما أن يكمل الأستاذ الجامعي بحثاً مهمًا في تخصصه وينقل نتائجه لشباب الغد وصناعه فهو شيء غير جذاب ومن ثم يلتف المتلقون حول نوعية بعينها من الأخبار لغرابتها وشذوذها.
ورغم أن مكان الرجل الذي "عض الكلب" هو "الخانكة" لا صفحات الجرائد التي ما زالت تصر على ملىء صفحاتها بمثل تلك النوعية من الأخبار التي تفرح الصغار ويعافها الكبار، وبالتالي يكون الصحفي قد أسهم وأسهمت معه عميدة الكلية في "جر" من هم عرضة دومًا بل وعلى أهبة الاستعداد دائمًا وأبدًا للاستبسال في معارك مجانية عديمة الفائدة ليسوا هم طرفًا فيها، فقط سيقوا إليها كما يساق المتضامن – مضطرًا - للتضامن مع هذا أو ذاك هنا أو هناك، وهذا النوع من التضامن المجاني مع الحريات يا حضرات، أراه من آفات حاراتنا التي نزج إليها دومًا مجبرين لا أبطال، ولا يسعنا فعل شيء آخر.
وضع بائس نعيش فيه كنتيجة طبيعية لاختلال المفاهيم والمعايير، "مفهوم الحرية" و"مفهوم المسئولية" و"مفهوم الخصوصية".
فتأتي الممارسات خاطئة عندما يجهل الحر كيف يكون وكيف يعيش حرًا دون أن يدفع الآخرين لاختراق خصوصيته ومن ثم المزايدة عليه وافتعال القضايا واستعداء الآخرين ضده في قضايا وصراعات مجانية باهظة التكاليف، في حين كان الأولى والأحق والأجدر والأجدى بهذا "الحر" أن يدخر وقته وطاقته ولا يهدرهما بل يدخرهما من أجل الصراعات الحقيقية.
ولأنني ممن يقدرون ويثمنون ويعون جيدًا قيمة الوقت ومفهوم الحرية وأهمية الحفاظ على طاقة المرء بوصفها شيئًا ثمينًا غير مهدر وغير مجاني، وبما أنني من القلة أو الأكثرية - لا أعرف - التي تعاف النضال الفيسبوكي وببساطة أختار معاركي ولا أقبض على الريح ولا أتركها لتقبض على- لم أكتب بوستًا تضامنيًا ولم أنزلق للهاشتاجات الشهيرة التي ضاع فيها الكثير من الحق وأهدرت طاقات في شأن لا يستحق كل هذا العناء.
وبما أن المرأة هي القضية والحقوق والحريات هي الحكاية، وأن هنالك تهديدًا وغبنًا شديدًا يمارس على الإناث عامةً وجرائم ترتكب في حقهن، بل وقد تمارس الأنثى أيضًا وفي بعض الأحيان وللأسف غبنًا على نفسها ويغريها الترند أو ما شابه،
وتلك القضايا والممارسات تضر أكثر مما تنفع ويكون السكوت بشأنها من ذهب، أما قضايا الاعتداء على الفتيات وقتلهن وابتزازهن عاطفيًا باسم الدين والأخلاق وخلافه فيكون السكوت عنها جريمة نكراء بل وتواطؤا.
فتحية واجبة نرسلها من هنا لنساء إيران اللاتي يقدن الآن ثورة حقيقية صادقة وغير مفتعلة ويطالبن بحقوق وحريات وأجواء صحية وتقدمية ضد حكم الفقيه والملالي وولايتهم الفاشية الفاسدة الملطخة بالدماء.