هل يقود الحوار الوطنى مصر لعصر الحلول والتشريعات الجريئة؟!
♦ لدى مراكز البحث المصرية الأكاديمية تخمة من الدراسات التى تراكمت عبر العقود الماضية، والتى حاولت بجدية بحث وفهم مشاكل المجتمع المصرى– سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية- ووضع حلول واقعية لها، لكن ظلت الغالبية من تلك الدراسات حبيسة الأدراج، أحيانًا لعدم توفر رغبة أو إرادة حقيقية لدى الإدارة السياسية الحاكمة، وأحيانًا أخرى لجرأة بعض الدراسات والحلول المقترحة لها وخوف إدارة البلاد من مواجهة الجماهير بها.
♦ لقد توصلت نخبة علماء العلوم الإنسانية المصريين إلى توصيف يقرب أن يكون حقيقيًا لكثيرٍ من مشكلات مصر الاجتماعية. ولنا أن نتذكر مثلًا الدراسات والبيانات التى تم إعلانها فى مؤتمر السكان الأول الذى عقد بمصر فى العقد الأول من حكم مبارك، وكيف أنها كانت من القوة لدرجة استفزاز قيادات دينية كبرى آنذاك!
♦ إننى أعتقد أن المصريين الآن لديهم فرصة ذهبية لفتح جميع الملفات وطرح أو إعادة إحياء أى دراسة نظرية سابقة يمكنها طرح أى حلول للمشاكل المصرية المتراكمة. ومرجع يقينى هو تحمس القيادة السياسية للبلاد وقناعتها بحاجة مصر الحقيقية للتفكير والعمل بطرق غير تقليدية. وهذه القناعة هى التى تقف خلف ما يمكنه أن يكون فى آثاره المستقبلية أهم مشهد تشهده مصر داخليًا، وأعنى به الحوار الوطنى بمختلف لجانه.
♦ لقد أعطت القيادة السياسية شرعية كبرى لهذا الحوار باقتراحه أولًا، ثم منحت أعضاءه والمشاركين به سقفًا غير مسبوق للتفكير، وقوة على الأرض لتطبيق كل أو بعض ما ينتج عنه سواء اقتراحات بخطوات أو تشريعات محددة.
♦ ويبقى السؤال الذى يفرض نفسه.. هل يستغل المصريون– ممثلين فى نخبتهم التى تضطلع بالحوار الوطنى تنظيمًا ومشاركة– تلك الفرصة الذهبية وينقلون مصر نقلة كبرى؟ أم سينتهى المشهد بتكرار تدشين الأفكار والحلول التقليدية التى لم يمكنها سابقًا القيام بتلك النقلة المنشودة؟!
♦ أولًا أتمنى أن يكون واردًا فى ذهن كل متخصص تتم الاستعانة به فى إحدى لجان الحوار الوطنى عدم الاكتفاء برؤيته الشخصية المفردة، وأن يستعين ببعض تلك الدراسات المتراكمة اختصارًا للوقت واستثمارًا مشروعًا لجهد السابقين.
♦ من التراكم المعلوماتى لدىّ، سأعرض فى الفقرات التالية بعض الأمثلة لتلك المشاكل المزمنة فى المجتمع المصرى من قضايا متنوعة كانت دائمًا مثارًا للبحث والدراسة لما ترتب عليها من آثار سلبية أعاقت، ويمكنها أن تعوق مستقبلًا، الرؤية التنموية والحضارية الطموحة التى تتبناها القيادة السياسية لمصر..
♦ منذ شهور شرفُتُ بالاضطلاع على السيرة الذاتية المهنية للواء صفوت شاكر، رئيس هيئة الأمن القومى الأسبق ومحافظ قنا الأسبق، وذلك بعد تشريفى بالمشاركة فى الإعداد لعمل توثيقى لفترة شغله منصب المحافظ لمدة أربع سنوات فى نهاية الألفية السابقة.
♦ ومما توقفت عنده كثيرًا ما قام به الرجل على المستوى الاجتماعى فى مجتمع جنوبى يعانى من تراكم المشاكل الاجتماعية، ومن بين تلك الملفات التى اقتحمها الرجل هو ملف زواج الأقارب، وذلك حين شاهد ارتفاع نسبة المعاقين بين المواليد واستعان بعلماء متخصصين لدراسة الظاهرة. وجاءت الإجابة واضحة صريحة.. السبب هو تراكم زواج الأقارب من الدرجة الأولى. قام الرجل بالاستعانة بالدكتور إسماعيل سلام وزير الصحة آنذاك بحملات توعية كبيرة.
♦ ثم أكدت الدراسات الأحدث ما تسببه تلك الظاهرة من آثار سلبية على أجيال بحالها خاصة فى جنوب مصر. لقد أثمرت جهود التوعية بعض النجاح.. لكن بمشاهدة الوضع حاليًا يتضح تفاقم آثار الظاهرة.
♦ فهل لدى النخبة المصرية من الجرأة ما يدفعها للمطالبة– حلًا لتلك الظاهرة المهددة لصحة أجيال كاملة– بإصدار تشريع مصرى قوى يوقف لأمد زمنى محدد ربما أربعة أو خمسة عقود زواج الأقارب من الدرجة الأولى (أبناء العم وأبناء الخالة)؟
♦ هل تقوى نخبتنا على مواجهة الحملة المتوقعة بأنهم يريدون تحريم ما أحل الله؟ وهل لديها من القدرة الموضوعية أن تقنع المجتمع المصرى بوجوب اتخاذ هذا القرار، وهو ليس تحريمًا وإنما وقفًا مؤقتًا لأسباب صحية ثبت يقينها؟!
♦ الانفجار السكانى فى مصر هو العدو الأول لكل خطط التنمية وآمال المصريين فى أى تقدم حضارى حقيقى. هناك بالفعل استجابة مجتمعية لحملات التوعية، لكن تلك الاستجابة لا ترقى حتى الآن أو تقوى فى مجملها على الوقوف كحائط صد دون استمرار الكارثة.
♦ هنا لا بد أن يكون هناك فكر أكثر جرأة، ولا بد أن نتوق إلى تشريعات حامية للدولة من آثار تلك الكارثة. من تلك التشريعات التى يمكنها القيام بدور مساند لجهود التوعية هى فرض قيام الزوجين بالتسجيل فى وحدة الرعاية الطبية التابعين لها جغرافيًا تمامًا كما يتم تسجيل الأطفال لتلقى جرعات التطعيمات واللقاحات الإجبارية.
♦ يكون الغرض من تسجيل الأب والأم هو خضوعهما لكشف طبى بعد إنجاب الطفل الأول يتحدد على إثره الوسيلة الطبية اللازمة للتوقف عن الإنجاب سنوات محددة. ثم بعد إنجاب الطفل الثانى يتم نفس الكشف الطبى، ويتم تحديد وسائل للتوقف عن الإنجاب.
♦ وتحدد غرامات صارمة لمن يتخلف عن التسجيل، وفى حالة إنجاب طفل ثالث تُفرض على رب الأسرة حزمة من الإجراءات منها رسوم باهظة– عشرون ألف جنيه أو أكثر مثلًا- لتسجيل شهادة ميلاد الطفل الثالث. ثم لا تتحمل الدولة مستقبلًا عبء توفير تعليم جامعى مجانى للطفل الثالث.
♦ فيما يخص جرائم فساد المال العام والرشوة، ومعها جرائم التحرش أو الاعتداء الجنسى، هناك إرث مصرى عقابى يسمى التجريس! وبالمعنى العصرى يمكن أن يكون هذا الإجراء أكثر قسوة وردعًا من عقوبة السجن بمفردها.
♦ فلو افترضنا مثلًا أن هناك فى كل مدينة مصرية ميدانًا جماهيريًا يرتاده السكان بصفة دورية، ثم قمنا بعمل لوحة إعلانية ضوئية ضحمة واعتمدنا عقوبة تماثل النشر فى الجريدة الرسمية لكننا سنستبدلها بعقوبة الإعلان فى "لوحة إعلان المدينة" لعدد محدد من الأيام لكل من تمت إدانتهم بأحكام نهائية فى جرائم سرقة أو إهدار المال العام أو الرشوة أو جرائم التحرش أو الاعتداء على السيدات أو الأطفال!
♦ جريمة تشويه الهوية المصرية للأسف جريمة لن يمكن تحديد جناتها أو محاكمتهم، لكننا يمكن أن نطمح لتشريعات جديدة تزيل آثار تلك الجريمة وتعيد للمصريين هويتهم الحقيقية.
♦ وأول هذه التشريعات يخص وزارة التربية والتعليم وما تقرره على التلاميذ من قصص تشكل وعيهم الروحى الداخلى. يجب أن يكون هناك تشريعٌ يلزم وزارة التربية والتعليم المصرية باختيار جميع أبطال القصص المقررة على التلاميذ من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية من مصر سواء من تاريخها القديم أو أيام مجدها المعاصر.. لكن يجب أن يكون الأبطال مصريين وتكون بطولاتهم وطنية تتعلق بمصر والدفاع عنها أو بناء مجدها الحضارى!
♦ وأن يكون جزء من التشريع إلزام وزارة التربية والتعليم بتدريس قصة واحدة على الأقل خلال مرحلة التعليم الأساسى عن حرب أكتوبر، تحتوى سيرة عدد من الشهداء والأبطال تقوم القوات المسلحة باختيارهم وتقديم المادة المعلوماتية عنهم!
♦ فى نطاق مقاومة محاولات تشويه الهوية المصرية يمكن إدراج بند سحب أى درجات علمية أكاديمية من أى رجل دين ثبت مساندته للفكر المتطرف ووقوفه ضد الدولة المصرية وسحب كل الصلاحيات الأكاديمية المترتبة على تلك الدرجة العلمية!
♦ شركات البناء الخاصة والتى قامت وتقوم بتشييد الأحياء والكمبوندات الحالية فى كثير من مناطق مصر لا بد أن يكون هناك من القوانين ما يلزمها باختيار أسماء تعبر عن هوية مصر.. ليس معقولًا أن تكون أسماء غالبية الكمبوندات الجديدة أسماءً غير مصرية!
♦ هل مصر دولة فقيرة فى الأسماء؟ سواء أسماء أفراد تاريخيين، أو مفردات حضارية مصرية، أو حتى أسماء مناطق ذات إرث.. هل مصر فى حاجة إلى اقتباس أسماء تنتمى لأرض أخرى أو حضارات أخرى؟!
♦ والتشريع الأجرأ والأهم والذى تحتاجه مصر الآن بشدة هو "التأميم الدينى"، بإخضاع جميع المعاهد الأزهرية لولاية وزارة التربية والتعليم المدنية، والإعلان عن انتهاء مرحلة تعليم العصور الوسطى أو مدارس التعليم الدينى المنفصل عن التعليم العام، بمعنى أن تقدم الدولة لجميع أبنائها نفس التعليم المجانى!
♦ وأن تنتهى حالة الازدواجية التعليمية الجامعية بين جامعات مدنية حكومية وجامعات دينية، وذلك بخضوع جميع الجامعات المصرية الحكومية لوزارة واحدة اسمها التعليم العالى!
♦ أن يعاد النظر فى التشريعات والقوانين المنظمة للجمعيات الدينية الخاصة بمختلف مسمياتها وأن يتم تأميمها وإخضاعها إداريًا تمامًا لولاية الدولة المدنية.. وإنهاء تلك المرحلة من تاريخ مصر المعاصر. فمصر فى حاجة ماسة الآن لتأميم أى مؤسسات خاصة لها علاقة بممارسة الشعائر الدينية أو القيام بأى وعظ دينى أو مخاطبة الجماهير دينيًا أو السيطرة على عقول الصغار فى الكتاتيب الملحقة بتلك الجمعيات!
♦ لقد آن الأوان لإعادة النظر فى منظومة التعليم الجامعى المجانى. لقد بدأت مجانية التعليم الجامعى المجانى بعد ثورة يوليو. لقد كان للثورة مشروعها المصرى الخالص تعليميًا وصناعيًا وتنمويًا.
♦ ولم يكن بمصر آنذاك من المصريين المتعلمين ما يكفى لتنفيذ ذلك المشروع، فكان الانفتاح على التعليم الجامعى المجانى آنذاك ضرورة قصوى. نظام يوليو ربط المشروع التعليمى بالمشروع القومى الصناعى والتنموى، فخرّج متعلمين حقيقيين اُستكمِل على عواتقهم مشروع مصر الحديثة الذى بدأه محمد على.
♦ لكن ما حدث فى العقود التى تلت انتصار أكتوبر من انفجار سكانى وأزمة اقتصادية وهجرة الكوادر العلمية أدى إلى إفراغ التعليم الجامعى المصرى من كثير من مضمونه وأهدافه. لم يعد مرتبطًا بحاجة مصر الحقيقية. فتوسعنا فى تخريج طلاب فى تخصصات كان يمكن الاكتفاء بعدد قليل منهم فى كل تخصص.
♦ إلزام الدولة لنفسها بتوفير مكان مجانى فى الجامعة لكل خريجى الثانوية العامة أفرغ العملية التعليمية من أهم مقوماتها وهو المقوم التنافسى. وعطل ملايين الشباب عن الدمج المبكر فى سوق العمل اليدوية التنموية انتظارًا للحصول على شهادة جامعية شكلية.
♦ لذلك فربما يكون نظام "المنح الدراسية المجانية" لعدد محدد كل عام من المؤهلين فعليًا لاستكمال مسيرة التعليم الجامعى هو النظام الأمثل فى مصر.
♦ على أن يتم تحويل الأعداد الباقية لسوق العمل فى المشروعات القومية الإنتاجية الحقيقية "زراعة– صناعة"، والاكتفاء بالحصول على شهادة الثانوية العامة كشهادة تعليمية نهائية.
♦ يمكن اختيار عدد كل عام حسب أنظمة تقويم حديثة، ويكون هذا العدد هو الحاجة الفعلية الحقيقية وفى التخصصات المطلوبة بشكل حقيقى وليس نظريًا وهميًا.
♦ ولا تعارض إطلاقًا بين ذلك وبين توسع الدولة فى إقامة الجامعات الإقليمية، لأننا حين ننفذ ذلك النظام سيتاح لكل طالب- استحق أن يحصل على منحة دراسية مجانية- أن يحصل على مستوى تعليمى وتأهيلى أفضل.
♦ تكون هناك نسبة أخرى محدودة تأتى فى مرتبة ثانية فى اجتياز اختبارات التأهيل، ويتاح لتلك النسبة الحصول على مقاعد جامعية برسوم.
♦ أختم حديثى بلفت النظر إلى حاجة لتغيير التشريعات الخاص بآلية الحصول على الدرجات العملية العليا "ماجستير ودكتوراه".. لا بد أن يتم وقف "صنبور" الدراسات العليا فى الجامعات المصرية وتتم إعادة النظر فى المستوى العلمى الحقيقى الذى يصل إليه هؤلاء الحاصلون على تلك الدرجات العلمية الرفيعة.
♦ كما ينبغى ربط ذلك بالتخصصات المطلوبة فى مصر إن كانت الجامعات المصرية تقدم أى دعم لهؤلاء الطلاب. لا ينبغى أن تلزم الدولة نفسها بالإنفاق على تخصصات وموضوعات مكررة يعاد تدويرها ثم لا تتم الاستفادة منها مثل علوم اللغة العربية وعلوم التراث الدينى الذى أصبحت لدينا تخمة منه فى حاجة إلى تنقيح لا إلى زيادة!
♦ الربط الملعوماتى بين ما يتم الإنفاق عليه من علوم ودراسات وبين حاجة مصر فى العقود المقبلة فى مشاريع التنمية والبناء أصبح حاجة ماسة..
♦ فى مشهد ساخر بعد أحداث يناير، تظاهر حملة الماجستير والدكتوراه فى هوجة التظاهرات الفئوية مطالبين الدولة– التى أنفقت على حصولهم على درجات علمية لا فائدة منها– بتعيينهم فى وظائف حكومية بصفتهم علماء!
♦ ساعتها كتبت مقالًا بعنوان حملة الدكتوراه وشيوخ الأرياف.. لأنهم فعلوا ما كان يفعله كثيرون فى أرياف مصر من بناء طينى ووضع مكبر صوت ثم رفع لافتة عليه باسم مسجد.. ثم يطالبون وزارة الأوقاف بضمه إليها وتعيين أربعة أو خمسة من القرية به! كان هذا يحدث سابقًا، وكان السبب فى تعيين آلاف كموظفين فى وزارة الأوقاف دون حاجة حقيقية إليهم!
إن كل من رسالة الماجستير أوالدكتوراه هى درجة علمية رفيعة لا ينبغى أن يكون الحصول على إحداها، عبر خطوات بيروقراطية دون أن يكون حاملًا إحداها، نابغًا فى مجاله يحمل فى رأسه من الفكر الخلاق ما يمنحه لبلاده وللناس!