قناة القاهرة.. الطلّة حلوة
حينما دخلت مبنى ماسبيرو لأول مرة فى حياتى منذ ما يزيد على ثلاثين سنة لم يشغلنى ذلك البناء الضخم ولا براح الاستديوهات ولا رنة «الكريستالة» فى استديو الهواء أمام الإذاعية القديرة هدى العجيمى.. كان أول ما شغلنى ولم أجد له تفسيرًا وقتها هو حركة البشر المسرعين فى خطواتهم بشكل مزعج.. رنة هذه الخطوات فى ذلك الفضاء المريب كانت أول ما خطف أذنى وعينى.. عين الشاب الصعيدى التائه فى ذلك المبنى الدائرى الرهيب.
وحينما دخلت استديوهات قطاع الأخبار.. ولسنوات ليست قليلة فى حضرة الإعلامية الكبيرة هالة حشيش وعشرات من المبدعين المحترمين أدركت لماذا هم هؤلاء الناس يجرون بسرعة وكأنهم لا يتوقفون؟.
ساعات من التوتر لا تنتهى.. زمن لا يتوقف.. قصة لا تنتهى.. هذه هى العناوين التى لن تقرأها فى نشرة الأخبار ولن يحكيها من يصنعونها ويعيشونها لأبنائهم بعد إرهاق يوم طويل وربما لأيام.
هذه المعرفة الحميمة بالحياة الصعبة التى يقاسيها أهل الخبر.. جعلتنى أشفق على الذين كُتب لهم أن يكونوا جنودًا جددًا فى المعركة المستمرة للحفاظ على رءوسنا وملامحنا وأعصابنا..
إطلاق قناة جديدة ليس أمرًا صعبًا.. وإطلاق قناة أخبار جديدة أيضًا ليس أمرًا صعبًا.. لكن أن تطلق قناة إخبارية اسمها «القاهرة» فهذا هو التحدى بعينه.
تلك «القاهرة» التى يزيد عمرها على الألف سنة.. سيدة العواصم.. سليلة الحضارة.. سيدة الليالى.. أم المآذن كيف ستخبرنا عنها وماذا ستفعل فى هذه اللحظة البائسة التى يعيشها العالم؟.
لقد صار المواطنون جميعًا صحفيين ومخبرين وصارت شاشات الموبايل قنوات خاصة فى أيدى الأطفال.. ازدحم العالم بالمنصات وصرنا جميعًا «صُناع المحتوى».. صرنا الفرجة فى حد ذاتها.. وكل ما تعلمناه فى علوم الإعلام والاتصال صار قديمًا جدًا.. مجرد يافطات نحاول تحفيظها لطلابنا فى أقسام الإعلام وهم يعرفون قبلنا أن الزمن تجاوزها وتجاوزنا..
أشفقت على الزملاء الذين لا أعرفهم.. ربما أعرف أسماء بعضهم.. وتعاطفت معهم.. لم تعد السياسة خبرًا أول.. ولم يعد الاقتصاد كذلك.. وربما صارت الرياضة شيئًا قديمًا.. صار الناس جميعًا «خبرًا» يصلح أن نراهم فى مقدمة النشرة.. وصارت الفواصل بين ما هو «نخبوى» و«شعبى» لا وجود لها.. فماذا سيفعل أحمد الطاهرى ورفاقه فى هذه المعادلات الصعبة؟.
صناعة الأخبار عملية مجهدة.. ومكلفة.. والمشاهد لا يرحم.. هذا ما يعرفه الجميع لكننا قادرون على المغامرة حتمًا.. فإصدار قناة إخبارية تليق بالقاهرة ليس حلمًا بل هو واجب تأخر كثيرًا لظروف يعلمها أهل المهنة جيدًا.. وأبناء القاهرة قادرون على الحلم والنجاح.
معظم الشاشات العربية ومن قبلها الإذاعات الإقليمية أيضًا قامت على أكتاف أبناء القاهرة لا ينكر هذا إلا جاحد.. ربما «تُهنا قليلًا» لكن أسطوات الصنعة موجودون.. وشباب الإعلام فى مصر- مهما تعرض لهزات وكبوات- مهرة يعرفون سر الصنعة.
يُقرأ الجواب من عنوانه.. هكذا يقول أهلنا فى الحضر والريف.. والطلّة الأولى لمراسلى القاهرة الإخبارية فى البرومو الترويجى الذى تم بثه عبر منصات التواصل .. طلّة حلوة.. فأول الكلام دومًا من أين أنت قادم؟.. خريطة توزيع المراسلين تؤكد أن هناك عقلًا يرى ويسمع ويرسم وراء هذه الاختيارات التى تبدو فى إطلالتها الأولى واثقة من لغتها وحروفها ونظرتها جيدًا.. بالبلدى «واقفين على رجليهم».. والاختيارات التى أُعلن عنها ومن بينها أسماء أساتذتنا عادل حمودة وجمال عنايت.. وعدد كبير من المجيدين من شباب المهنة، تؤكد أن الشاشة زاخرة بعناصر الخبرة وجموح الخيزران فى الوجوه الشابة.
أعرف أننا لم نعد وحدنا على الكوكب.. ولا الساحة خالية إلا منا مثلما كنا فى البدايات.. وأعرف أن «السوق» صعبة بكل مفرداتها.. والأصعب من ذلك أن المشاهد المصرى لن يرضى بسهولة.. لكنى أثق فى مهارة وقدرة أبناء هذا الجيل على اكتساب ثقة هذا المشاهد بسرعة شديدة.. فالقاهرة- البلد- تملك من الموارد ما لا يملكه غيرها.. نحن «ساحة تصوير» مفتوحة لا يملك العالم بأسره مثلها.. فلقد زرت أهم استديوهات الأخبار فى بلدين من أهم بلدان صناعة الميديا، وأزعم أننا نملك ما لا يملكون.. فقط علينا أن نثق فى أنفسنا وفيما نملك.. أن نعرف ما نملك.
الأمس ليس مجرد كتاب تاريخ.. واليوم الذى تعيشه ليس «مؤتمرًا للرغى والمماحكة».. والغد لن يأتى صدفة.
الأمس.. هو أكبر فيلم وثائقى يملكه المصريون.. واليوم هو المعركة الأهم والحدث الأبرز الذى يعيشونه وربما لا يعرف العالم كيف يعيشه.. والغد نملكه بقدر ما أتحنا للناس أن يكونوا صناع غدهم بأنفسهم.. «الإعلام مش كيميا أيضًا رغم كل ما نقول».. والأحلام قابلة للصرف والتداول.
لم أتعود أن أكتب عن «حدث» أو «قصة» فى طور الإعداد.. خاصة وأننى لا أعرف التفاصيل لكننى مع أى بشارة طيبة أنتشى وأجدنى مدفوعًا للفرح.
والطلّة الأولى لهؤلاء الشباب كافية لمن يريد أن يفرح.. نافذة جديدة ومهمة ها هى تفرد أجنحتها من «القاهرة» فى وقت تغلق مؤسسات كبرى فى العالم مثل «BBC» بعض نوافذها.. فيما تجمد مؤسسات أخرى حركة بعض أجنحتها لعدم قدرتها على تحمل «كُلفة» إنتاج المحتوى والتشغيل فى ظل أزمة اقتصادية خانقة تحاصر معظم دول العالم.. فيما تقرر القاهرة أن تفتح «حضنها الوسيع» وأن ترى العالم من جديد بقلب محب وعين غير مشوشة.. عسى أن يرانا ذلك العالم بالصورة التى نحب والتى عليها نحن بالفعل وهذه هى المهمة الأصعب.. لكن لا شىء يحدث صدفة، وأعتقد أن هذه الكتيبة فيما أعرفه عن بعض جنودها لا تترك شيئًا للصدفة أبدًا.
من حقنا أن نفرح وأن نحتفى وأن نشد على ساعد «الطاهرى» ورفاقه وكل من هم فى الطرقات لا ينامون.. هؤلاء الذين يتحركون بخطوات سريعة لم أفهم سرها منذ رأيتها فى «ماسبيرو» منذ ما يزيد على ثلاثين سنة.