فراغ فى براغ!
فى ختام قمتهم، التى استضافتها العاصمة التشيكية براغ، اتفق قادة ٤٤ دولة أوروبية، أمس الأول الجمعة، شفهيًا، وليس فى بيان ختامى، على استمرار تقديم الدعم المالى والسياسى والعسكرى لأوكرانيا، وحددوا التحديات، التى ينبغى أن يتعاون الأوروبيون، لمواجهتها، سواء كانوا داخل الاتحاد الأوروبى أو خارجه، بعد مناقشات أجرتها أربع لجان، ركزت على الطاقة والبيئة والاقتصاد والحرب والسلم فى أوروبا.
تلك هى القمة الأولى، أو التأسيسية، لـ«المجموعة السياسية الأوروبية»، التى أطلق الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فكرتها فى ٤ مايو الماضى، أمام البرلمان الأوروبى، ودعمها المستشار الألمانى أولاف شولتز، ورحب بها قادة الاتحاد الأوروبى فى يونيو، وقالوا إنها يمكن «أن تسهم فى توفير الأمن والاستقرار والازدهار لكل القارة الأوروبية». وفى أول تطبيق للفكرة، شارك فى القمة قادة دول الاتحاد مع ١٧ آخرين، أى قادة كل دول القارة العجوز، باستثناء الرئيسين الروسى والبيلاروسى، فلاديمير بوتين وألكسندر لوكاشينكو.
فكرة تأسيس المجموعة، ردّها البعض، وماكرون نفسه، إلى الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، الذى كان قد دعا، سنة ١٩٨٩، بعد سقوط حائط برلين، إلى إنشاء «أوروبا كونفيدرالية». غير أننا نراها تكرارًا، أو إعادة إنتاج، لـ«مجلس أوروبا»، الذى تأسس سنة ١٩٤٩، بمبادرة من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا والدنمارك وأيرلندا ولوكسمبورج وهولندا والنرويج والسويد، وانضمت إليها اليونان، بعد ثلاث سنوات، وتبعتها أيسلندا وتركيا وألمانيا الغربية، و... و... إلى أن وصل عدد الدول الأعضاء إلى ٤٧ دولة، من بينها الدول الـ٢٧ الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، ودول آسيوية، بزعم أنها أوروبية سياسيًا واجتماعيًا!
الفراغ، فى الفيزياء، هو الحيز الخالى من الأجسام المحسوسة، أو من المادة بصورها الثلاث. وفى «لسان العرب»، هو الخلاء، كأن يُوصف الوقت الخالى من العمل بأنه وقت الفراغ، وفى التنزيل «أَصبح فؤاد أُمِّ موسى فارِغًا» أى خاليًا من الصبر. وقد يعنى العدم، أو السخافة، لو قيل إن فلانًا «يعيش فى فراغ»، و... و... وبمعنى الشعور بألم الفقد أو الحرمان، كتب تامر حسين وغنى عمرو دياب: «سيبت فراغ كبير».
بأحد هذه المعانى، أو بعضها، يمكنك النظر إلى ما شهدته قمة براغ، التى طلبت رئيسة الوزراء البريطانية، من منظميها عدم إظهار أعلام الاتحاد الأوروبى، وذكرت جريدة الـ«إندبندنت» نقلًا عن موقع «يور أكتف ريبورتس» أن الدبلوماسيين، الذين يمثلون الرئاسة التشيكية للمجلس الأوروبى، والمشاركين فى تنظيم القمة، استجابوا لهذا الطلب وحرصوا على تأكيد أن الحدث ليس له علاقة بالاتحاد. مع أن رفع العلم الأزرق بجوار أعلام دول التكتل، الـ٢٧، تقليد عادى، شائع ومتكرر، حتى فى المناسبات غير الأوروبية!
قيل إن القمة كانت فرصة مناسبة للاستماع إلى الموردين الأوروبيين، الذين تعهدوا بالعمل على استقرار الأسواق. وأكد الرئيس الفرنسى أن أوروبا ستكثف محادثاتها مع الدول الآسيوية الشريكة، وستطبق آليات للتأكد من وجود تضامن مالى فى تعاقدات شراء الطاقة. لكن هذا الكلام، سيظل بلا قيمة إلى أن يعلن الاتحاد الأوروبى موقفه من المقترحات التى ستطرحها المفوضية الأوروبية، بعد أيام، على اجتماع التكتل المقبل، والتى ستتضمن إجراءات قصيرة المدى لخفض الأسعار، وخطوات أطول مدى لإعادة تشكيل سوق الغاز.
إضافة إلى الجلسة العامة، عقد القادة الأوروبيون سلسلة من الموائد المستديرة واللقاءات الثنائية. وعن بُعد، شارك الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى، وطالب القادة الأوروبيين، فى كلمة ألقاها عبر الفيديو، بدعم بلاده «حتى لا تستطيع البحرية الروسية إغلاق موانئ أخرى فى البحر الأسود أو المتوسط أو أى بحر آخر، وحتى لا تصل الدبابات الروسية إلى وارسو أو براغ». كما أعلن شارل ميشال، رئيس المجلس الأوروبى، خلال القمة، عن موافقة المجلس على حزمة عقوبات ثامنة ضد روسيا، وهى الحزمة التى رأتها الخارجية الروسية تأكيدًا جديدًا على أن قرارات الاتحاد الأوروبى تصدر بناءً على إملاءات أمريكية.
.. وتبقى الإشارة إلى أن قادة «المجموعة السياسية الأوروبية»، اتفقوا على عقد قمتين، سنويًا، على أن تكون الاستضافة بالتناوب بين الدول الأعضاء وغير الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى. فى حين يرجح كثيرون، ونحن منهم، أن تكون قمة براغ، هى الأولى والأخيرة!