تغيير خرائط العالم
أحدث الاستفتاء الذى أجرته السلطات الروسية فى بعض المقاطعات الأوكرانية، وما أعقبه من قرار بانضمام هذه المقاطعات إلى الاتحاد الروسى، ضجة كبرى فى الأوساط الدولية، حيث أعلن الغرب، والأمم المتحدة، أيضًا، عن عدم اعترافهما بهذا الضم، والدعوة إلى احترام الحدود السياسية القائمة.
وأثار هذا الأمر ذاكرة التاريخ لدىّ فى مسألة الحروب والحدود السياسية، وإعادة رسم خرائط العالم. والحق أن مصطلح الحدود السياسية بما نفهمه الآن، وبما ينظمه القانون الدولى، وتشرعنه المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، هو مصطلح حديث، لم تعرفه البشرية من قبل، فلم تكن الحدود، أو فى الحقيقة «التخوم»، بمثل هذا المفهوم، أو كما نقول فى العامية المصرية بالقلم والمسطرة!
وتدلنا حقائق التاريخ على أن الحرب- للأسف الشديد- هى السبب الرئيس فى تغيير خرائط العالم، وإعادة رسم الحدود السياسية. والمثال الأبرز لدينا فى القرن العشرين هو عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، هذه الحرب القاسية التى لم يعرف العالم مثيلًا لها من قبل. وربما لا يعرف الكثير منا أنه حتى عام ١٩١٨ كانت هناك دولة كبرى، ربما هى أكبر دولة فى وسط وشرق أوروبا، هى «إمبراطورية النمسا والمجر»، وكما هو واضح من الاسم كانت هذه الإمبراطورية تضم النمسا والمجر، ولكنها تضم أيضًا شعوبًا من شرق أوروبا، وأجزاء من دول أخرى من وسط أوروبا، وكان لهذه الإمبراطورية عملة نقدية باسمها، ولرعاياها بطاقة هوية، لكن ذلك سقط مع هزيمة هذه الإمبراطورية فى الحرب العالمية الأولى، ويُعاد تقسيم أجزاء وحدود هذه الإمبراطورية لتظهر النمسا كدولة والمجر كدولة، ويتم تقسيم أملاكها فى شرق ووسط أوروبا لحساب دول أخرى.
والمثال البارز الآخر هو إقليما الإلزاس واللورين، والصراع بين ألمانيا وفرنسا على هذين الإقليمين، والحروب العديدة بينهما بهذا الشأن، التى انتهت بالحرب العالمية الثانية؛ حيث آلت لفرنسا تلك الأماكن، ولعل أشهر هذه البقاع مدينة ستراسبورج الشهيرة ذات الطابع المختلف عن بقية فرنسا.
والمثال الشهير فى منطقة الشرق الأوسط هو سقوط الدولة العثمانية مع هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، وكيف قامت دولة تركيا على أنقاضها. وقد ترتب على سقوط الدولة العثمانية إعادة رسم خرائط المشرق العربى على يد إنجلترا وفرنسا، وظهور الدول الوطنية فى المنطقة، لكن هذا التقسيم خلَّف لنا الكثير من مشاكل الحدود السياسية، التى عانت منها دول المنطقة لعقود طويلة.
ويبدو أن العالم يتجه الآن إلى إعادة رسم الخرائط السياسية من جديد، ومع فشل الدبلوماسية فى حل هذه النزاعات، اندفع البعض نحو حسم هذه الأمور من خلال الحرب. وربما يفسر هذا، إلى حدٍ ما، الحرب الروسية- الأوكرانية، وحديث بوتين عن أملاك الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتى، وعن وحدة العنصر الروسى.
وهناك مناطق أخرى مرشحة لتكون بؤر صراع من أجل تغيير خرائط العالم، ولعل نموذج الصين وتايوان خير مثال على ذلك؛ إذ تؤمن الصين بمبدأ «الصين الواحدة»، وبالتالى ترى أن تايوان جزء لا يتجزأ منها. والسؤال الآن: ماذا سيحدث فى العالم إذا لجأت الصين إلى تطبيق مبدأ «صين واحدة» بالقوة وقامت بضم تايوان؟
ومنطقة شرق البحر المتوسط ليست بعيدة عن هذه الظاهرة، لا سيما مع تصاعد الأهمية الاقتصادية لها مع اكتشافات الغاز. وأنا هنا أشير إلى وضع قبرص، المنقسمة الآن إلى قبرص التركية، وقبرص اليونانية منذ عام ١٩٧٤، ماذا لو أقدمت تركيا على إجراء استفتاء فى قبرص التركية، وقامت بضمها إليها؟ أتصور أن هذا الوضع سيشعل منطقة شرق البحر المتوسط.
يُعلِمنا التاريخ أن الخرائط السياسية تتغير من وقتٍ لآخر، لكن كلفة التغيير عن طريق الحرب باهظة على الجميع، فمتى تهدأ المدافع، وتبدأ الدبلوماسية عملها؟