ومن تانى.. المكن بيدور
يظن البعض أن الفرح بإنشاء مصنع جديد سببه هو توفير حاجة تنقصنا فقط من منتج ما.. أو أن الفرح سببه أن هذا المصنع سيوفر أموالًا نحتاجها إذا ما قمنا بتصدير ولو جزء من الإنتاج، أو أن الفرح سببه أن بناءً جديدًا يصعد وتصعد معه مصادر الدخل لأسر مصرية ليست قليلة.
أسباب الفرح بأى مشروع صناعى جديد أكبر من ذلك بكثير.. وأولها فى ظنى أنه لا يوجد مجتمع صحى أو حياة دون «العامل».. هذه البدل الزرقاء التى غنّى لها عبدالحليم حافظ فى منتصف خمسينيات القرن الماضى ليست مجرد «لون»، وليست مجرد «قماش» تم صبغه بالزهرة.
الحياة من وجهة نظرى لا أهمية لها دون هذ العامل.. هذا الرجل الذى يتم عصره نقطة نقطة مع زيوت المكن هو نفسه صاحب الرائحة العطرة التى تسكن تلك المساحة التى يدور فيها المكن.. أى مكن.
حياة العمال مجتمع عمرانى كامل.. له طقوسه وخصوصيته، وأبناء المناطق التى نشأت فيها شركات كبرى مثل غزل المحلة وألومنيوم نجع حمادى والدخيلة، وغيرها يعرفون ذلك.. حتى إن البعض ممن لا يعرفون قيمة وقدر العمال كانوا يطلقون على هذا المجتمع تعبير «الشركاوية» نسبة إلى الشركة.
حياة أى مصنع ليست مجرد «يومية».. إنها عالم إنسانى بديع ينصهر فيه الحديد مع عرق البشر لينتج لنا «طعامًا» أو «زيًا» له رائحة جديدة.
لهذا أفرح كثيرًا كلما سمعت أو قرأت أننا بصدد بناء مصنع جديد.. فما بالك والكلام هذه المرة على «أربعة مجمعات صناعية كبرى لإنتاج الزيوت دفعة واحدة».. الخبر أُعلن منذ أسبوع فقط.. مرة على لسان وزير التموين الدكتور على المصيلحى، ومرة على لسان رئيس الشركة القابضة للزيوت.
صحيح أن هذه المصانع لن تكون جاهزة للعمل فى الغد.. أو بعد غدٍ.. لكن العمل بها ربما يستمر لثلاث أو أربع سنوات حتى يحدث ذلك.. لكن هذا يعنى من الأصل أننا جاهزون.. وأن دراسة ما جرت لتحدد المناطق التى سيتم إنشاء هذه المجمعات بها.. وقد قال الوزير المصيلحى إنها فى مدن السادات وبرج العرب وسوهاج والسويس.
أربعة مجمعات صناعية جديدة هذا حلم فى حد ذاته.. وكونها لإنتاج الزيوت فهذا حدث أعظم يستحق أن نتوقف أمامه.
لا بيت فى مصر لا يستخدم الزيت.. هو ليس مجرد سلعة استراتيجية وكفى.. هو طقس إنسانى مصرى بامتياز.. لا يمكن الاستغناء عن زجاجة الزيت التى صارت «همًا» للعائلة المصرية بعدما أصبحنا نستورد ٩٧ بالمائة من احتياجاتنا من الزيوت، ومع الظروف الدولية التى تهدد استقرار عمليات الاستيراد، وقد عانى منها الكل خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ارتفعت أسعار «قزازة الزيت» عشرة أضعاف فى مدة بسيطة.. حتى صارت عملية توفير الزيت بمثابة مرتب لوحده.. لا تستعجب فزجاجة الزيت التى لا تصل إلى «الكيلو» ثمنها فى السوق يتعدى الثلاثين جنيهًا، واحسبها براحتك كم زجاجة من هذه تستهلكها أسرة مكونة من أربعة أفراد؟.
منذ شهور كتبت بفرح شديد «ما دام بنزرع.. يبقى هنصنّع» وقت افتتاح أحد المشروعات الزراعية الكبرى.. ومع متابعتى شبه اليومية لما يحدث فى قطاع الزراعة وبخاصة النخيل والزيتون.. كان يطاردنى سؤال لم أجد له إجابة.
لقد وصلنا إلى إنتاج كبير وضخم فى النخيل والزيتون، فلماذا كل هذه الفجوة الرهيبة فى استهلاك الزيوت؟.. لماذا نستورد كل هذه الكميات التى تكلفنا مبالغ بالمليارات؟.. وما بين من يردد أن المحتكرين فى عالم الاستيراد ليست لهم مصلحة فى أن نصنع أو ننتج وأنهم يكسبون من الاستيراد ولتذهب البلد والناس إلى الجحيم، وما بين أن تكلفة التصنيع أكبر من قدراتنا، وما بين أن القطاع الخاص يحجم عن الدخول فى هذه الصناعات الاستراتيجية ويفضل عليها المجالات التى تحقق له عوائد سريعة على طريقة «انتش واجرى».. حتى ارتبط اسم رجل الأعمال بكل ما هو نهب وسرقة وتهليب.. بين كل هذه المراهنات والتصورات التى لا نملك عنها معلومات أو دلائل.. تاهت الفكرة.
الآن.. الدولة تتصدى لهذا الملف.. وتفتح الباب على مصراعيه لمشاركة القطاع الخاص الذى أظن أنه لن يخسر أبدًا، فهى سلع مطلوبة فى الداخل والخارج ولن تبور أبدًا ومهما كانت التكلفة عالية فالعائد أعلى حتمًا.
المتاح من معلومات حسب بيانات وزارة الزراعة الأمريكية يؤكد أن حجم الإنتاج العالمى من الزيوت يصل إلى ٢١١ مليون طن.. تستهلك مصر ما يقرب من ثلاثة ملايين طن سنويًا لا تنتج منها سوى ما يقرب من خمسة بالمائة.
المجمعات الأربعة الجديدة التى أعلن عنها وزير التموين تصل تكلفتها إلى ٣٢١ مليون دولار.. أحد هذه المجمعات والمقرر إنشاؤه فى السويس سيتم بالمشاركة مع ماليزيا وهى ثانى أكبر الموردين لزيوت الطعام فى العالم، حيث تصدّر ٢٥ بالمائة من إنتاج زيت النخيل.
الوزير كشف عن أن الدراسات بهذا الشأن تجرى منذ عامين، وأضاف أن مجمع السويس يهدف إلى تحويل مصر لمركز تجارى عالمى فى مجال الزيوت، مشيرًا إلى أنه ستتم زيادة مساحة الأراضى المزروعة بفول الصويا إلى ٢٥٠ الف فدان.. وأضاف أن مجمع برج العرب يستهدف إنتاج ٩٠٠ ألف طن بذرة سنويًا، ومصنعًا للسمن بطاقة ٩٠ ألف طن سنويًا بإجمالى تكلفة ١٦٥ مليون دولار.. أما مجمع مدينة السادات الذى يقام على مساحة ٢١٠ آلاف متر فإنه يضم مصنعًا لتكرير وتعبئة الزيوت بطاقة ٢٤٠ ألف طن سنويًا بتكلفة ٤٨ مليون دولار، فيما يستهدف مصنع سوهاج إنتاج ٢٤٠ ألف طن بتكلفة ١٠٨ ملايين دولار.
ربما لا يحب بعضنا التوقف عند هذه الأرقام.. وأنا أيضًا أسعى دومًا إلى ما هو خلفها.. هل يتخيل أحدكم ماذا يعنى وجود مصنع جديد فى محافظة فقيرة مثل سوهاج.. غادرها «العمال» منذ سنوات طويلة بعد إغلاق مصنعى الغزل والبصل يبحثون عن فرصة فى بلاد الله لخلق الله.. هل تدرك معنى أن نشاهد مجددًا هذه البدل الزرقاء تسعى خلف «المكن الداير»؟.. إنها حياة كاملة كانت قد توقفت تمامًا وها هى تعود.
الدائرة تكتمل الآن.. أو هى ربما أقرب إلى الاكتمال.. ما زرعناه من مساحات شاسعة جديدة.. ينتج .. وها هى الحكومة تسعى لأن تصنّع من إنتاج هذه الأراضى.. هو الفرح بعينه عند اكتمال كل الدوائر.. بلادنا لن تنهض مجددًا إلا بهذا العمل وبهؤلاء العمال وعرقهم.
يقول أحدهم: منذ سنوات نسمع عن مجمعات للسكر والفوسفات وغيرهما.. وعن مزارع للأسماك وغيرها، فيما تزيد أسعار هذه السلع.. فهل نتعشم أن تنخفض أسعار الزيوت عندما يبدأ إنتاج هذه المصانع.. أم أن شيئًا من هذا لن يحدث؟! السؤال حقيقى ومدهش.. ويفتح الباب لأسئلة أخرى عن الرقابة فى مصر.. هذا الدور الغائب منذ سنوات.. منتجات كثيرة فى السوق المصرية موجودة لكن أسعارها مبالغ فيها ولا وجود لأجهزة الحكومة المعنية بالرقابة لأسباب غير مفهومة للمواطنين.. هذا القطاع يحتاج إلى تدخل عاجل لإعادة تأهيله أو تغييره حتى يعود إلى هويته التى تجعل المواطن يشعر بأن الدولة تحميه من هؤلاء الذين يستغلونه ويستغلون ظروفه.. خطر التاجر الجشع فى نظرى لا يقل عن «الإرهابى».. كلاهما يفقد المواطن علاقته بوطنه ما يجعله يشعر بأنه بمفرده فى مواجهة هذا الغول الذى يلتهم كل ما فى جيوبه.. ويجعله عاجزًا أمام احتياجات أطفاله وأهل بيته.
الفرح بأننا عدنا إلى الصناعة وأننا نسعى بشدة لسد احتياجاتنا لن يكتمل إلا بمحاصرة هؤلاء «التجار» الذين لا يردعهم ضمير.. نحن فى حالة حرب مستمرة.. وهى حرب أصعب من حرب البناء والتعمير، وأصعب وأكثر كلفة.