«خداع واحد ممكن».. رجال رضوى الأسود تحت وطأة المرض النفسى
أدرك صعوبة أن يكتب الإنسان عن رواية واحدة لمؤلفة غزيرة الإنتاج، لم تتح الفرصة للاطلاع على بقية أعمالها، ومع هذا فقد ينطوى هذا القصور على جانب إيجابى، إذ إن تجنب المقارنات والإحالات قد ييسر تركيزًا أكبر على العمل الأدبى الذى هو عالم مستقل بذاته، فقد تضىء مقارنة العمل بالمؤلفات الأخرى للكاتبة القضايا التى تعمقها من عمل لآخر، لكن العمل الواحد أيضًا وحدة واحدة كاشفة، فمن أصعب الأمور أن تقرأ عملًا بسيطًا وعميقًا فى وقت واحد، عملًا تتغير فيه مصائر الشخصيات، لكن أبدًا لا تغيب عن الكاتبة همها الرئيسى وقضيتها التى تسعى إليها، هذه مقدمة لا بد منها لكى أوضح أننى لم أقرأ لرضوى الأسود رواية أخرى غير «خداع واحد ممكن»، الصادرة مؤخرًا عن دار الشروق، لكنى أعبر منذ البدء عن عمق ما تركته فى نفسى من أثر لقراءة هذا العمل الجيد.
تصف رضوى الأسود، فى إطار رحلتها النفسية ما بين ماض وحاضر، «أحلام» و«حازم»، قصة الحب التى انتهت، وعادت لتستغرق أحلام من الوقت رحلة أخرى عبر ارتباط برجلين وفقدان جنين وجريمتى قتل وحفنة من المهدئات ودموع وأسئلة لا تحصى حتى تعود إلى مبتدئها الذى انتهت إليه: حازم، وهنا من تستلم دفة البوح هى شقيقة أحلام من خلال مذكرات حازم، ورسالة من أحلام إلى حازم، وخلال طريق العودة تذهب بنا رضوى الأسود برحلة عبر العديد من الأماكن لتصف لنا أحلام ابنة العامل البسيط فى مطابع «روزاليوسف» التى توغلت فى عالم القراءة، ومع تكرار الزيارات مع أبيها أصبحت وكأنها جزء من المؤسسة العريقة وكأنها فرد من أسرة المحررين والصحفيين الذين طالما أهدوها كتبًا قيّمة أثرت فى روحها وعقلها وأنضجتها قبل موعدها، فعاشت حيوات واستنسخت أخرى، غير أن حازم طالب كلية الطب يطالبها بالحجاب بعد أن تم استقطابه لبؤر فكرية ظلامية، ليصبحا دائرتين متقاطعتين حتى انتهت علاقتهما بفراق.
وعلى طريق عودة أحلام لحازم، تصف رضوى الأسود العديد من الرحلات لنرى مع أحلام: ممرات خلاَّبة، تصطف على جوانبها صور «السادة الكبار» مُعلَّقة على الجدران، كما تنتصب هياكل لفرسان عبارة عن مجسمات لأرجل تحمل فوقها قمصانًا نحاسية لامعة تُلبس فوق النصف الأعلى من الجسد، تعلوها خوذات من النحاس نفسه.
السقف مزخرف بالرسومات، الأرضية الرخامية زاهية الألوان، فى منتصفها شعار فرسان مالطا، الذى أينما وجد فهو مؤطَّر بأربعة أعمدة خشبية يربط بينها حبل من القطيفة الحمراء للحيلولة دون المرور من فوق الشعار، قد يكون ذلك كى لا تطأ الصليب الأقدام.
قاعة المجلس تحتوى على مفروشات من قماش الجوبلان. غرفة المجلس الكبيرة تزدان بلوحات جدارية رائعة. بعدها عرجا إلى المتحف الحربى، ليجدا مجموعة هائلة من ستة آلاف سلاح ودرع، وفى نهاية الجولة استراحا فى أحد الأفنية تحت ظلال إحدى أشجار اللبخ، سرحت أحلام فى سنوات مضت، حينما سافر بها كامل الحلوانى إلى الدار البيضاء لقضاء شهر العسل.
كامل الحلوانى الذى على شخصيته ستناقش رضوى علاقة الإبداع بالجنون، وجذور المرض النفسى، وهى التى تزوجته بعد فقد جنينها وفراقها من رأفت القفاص مدمن الخمر الذى تسبب فى فقدان جنينها.
من المدهش بالفعل كيف استطاعت رضوى الأسود أن تجسد فى هذا العمل الهام الشخصيات والأجواء المختلفة لتعكس حياة أحلام ورجالها الثلاثة الذين يعانون من المرض النفسى بدرجات متفاوتة، وهى تكتب عن أحلام كانت كفنان تأثيرى، فعباراتها كضربات فرشاة تنقل بالخطوط والتنقيط تفاصيل عالم مكتمل، ومكان وأسئلة ومخاوف، يتشارك فيه الكاتبة والقراء معًا.
ليس من السهل أن نعثر على رواية تلعب دورًا فى التكوين الفكرى، فالرواية فن رفيع له مكانته، وهى بطبيعة الحال ليست منشورات سياسية ولا دعوة للإصلاح الاجتماعى، ولا هى تقدم وصفة سهلة لعلاج الأخلاق أو سمو النفس، ولا حتى هى تقدم إجابات عن الأسئلة التى عاش الفلاسفة وماتوا وهم يضنون فى بحثها.
الرواية إذن شىء آخر؛ إنها تشمل شيئًا من كل هذا وتتجاوزه لأنها أكثر نفاذًا إلى النفس وهى تتجاوز أفق السياسة المحدود إلى آفاق أرحب، هكذا تلخص رواية «خداع واحد ممكن» أن الخوف والحرية ضدان لا يجتمعان، لذا افترق أحلام وحازم، بعد أن تغير فكره واختلفت رؤيته تمامًا بعد أن وطأت قدماه عتبات الكلية العملية «كلية الطب» وعشقت أحلام الآداب واللغة العربية.
وتناقش رضوى الأسود عبر الرواية: يقولون إن خريجى تلك الكليات هم ذوو الفكر الجامد والنظرة الأحادية، هم من يسهل استقطابهم وتحويلهم لمتشددين دينيين، ودليلهم على ذلك أن معظم أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» على سبيل المثال مهندسون وأطباء، يفسرون ذلك الأمر بالمناهج الدراسية الجامدة التى لم تلينها قصيدة أو تلونها قصة أو يهذب أطرافها الحادة الأدب، لكن تلك الأطروحة تثبت فساد منطقها المسند حينما لا نجد الأمور تسير على هذا النحو حين ننظر إلى الغرب، وترصد رضوى الأسود رحلة حازم والعودة إلى أحلام بعد أن تداوى نفسيًا وعاد من جديد إلى أحلام.