إيران وشرق البحر المتوسط
من الأمور المثيرة للانتباه فى السنوات الأخيرة، التوغل الإيرانى فى المنطقة العربية، وأثر ذلك على الأمن القومى العربى. وصدرت العديد من الدراسات التى حاولت ليس فقط رصد مظاهر التدخل الإيرانى، ولكن أيضًا محاولة تفسير هذه الظاهرة.
من الدراسات المهمة فى هذا الشأن ما قدمه المفكر اللبنانى الدكتور جمال واكيم فى كتابه «أوراسيا والغرب والهيمنة على الشرق الأوسط». وفى هذا الكتاب يُخَصِّص واكيم فصلًا لدراسة ما أطلق عليه «النزوع التاريخى لإيران للوصول إلى شرق البحر المتوسط»، وتنطلق الدراسة اعتمادًا على المنهج التاريخى، بالإضافة إلى الاستفادة الواسعة من منظور الجيو-سياسية. ومنذ البداية يشير واكيم إلى حقيقة تاريخية- من وجهة نظره- وهى أن ما نراه من أطماع إيرانية فى المنطقة العربية الآن هو أمر ليس بالجديد، وإنما هى مرحلة من المراحل التاريخية لما أطلق عليه «النزوع التاريخى لإيران للوصول إلى شرق المتوسط».
وينطلق جمال واكيم من فرضية جيو-سياسية مفادها أن مَن يحكم الهضبة الإيرانية على مر التاريخ، يسعى دائمًا للسيطرة على منطقة شرق البحر المتوسط ذات الطبيعة الاستراتيجية المهمة. ويرجع ذلك إلى أن منطقة شرق المتوسط هى مفترق طرق التجارة الدولية فى العالم القديم والوسيط. ولا تنحصر أهمية المنطقة فقط فى الطابع التجارى، وإنما أيضًا من الناحية العسكرية، لذلك كان الصراع على شرق المتوسط هو أحد أهم معالم التاريخ القديم والوسيط. ويلخص واكيم فرضيته قائلًا: «والجدير ذكره أن إيران ومنذ أيام الأخمينيين فى القرن السابع قبل الميلاد، وحتى يومنا هذا، سعت دائمًا لأن يكون لها موطئ قدم على شرق المتوسط».
ويستعرض واكيم أحداث التاريخ وسعى إيران إلى السيطرة على المنطقة، لا سيما أيام قمبيز الإمبراطور الفارسى الذى انطلق ليفرض سيطرته على العراق «بلاد ما بين النهرين»، وبلاد الشام، بل واستيلاءه على مصر، فى محاولة لتأكيد سيادة فارس «إيران» على المنطقة.
ويستمر واكيم فى رصد وتحليل مظاهر الأطماع الإيرانية فى منطقة شرق البحر المتوسط عبر التاريخ، ليصل إلى مرحلة جديدة فى القرن السادس عشر مع الدولة الصفوية الإيرانية وصراعها مع الدولة العثمانية للسيطرة على شرق البحر المتوسط.
ويصل بنا واكيم إلى عام ١٩٧٩، وأحداث الثورة الإسلامية فى إيران ووصول الخومينى إلى الحكم. وهنا يأخذ النزوع التاريخى لإيران نحو السيطرة على شرق البحر المتوسط بُعدًا أيديولوجيًا من خلال مصطلح «تصدير الثورة الإسلامية»، لهذا لم يكن غريبًا أن يعقد الخومينى تحالفًا مع سوريا فى عام ١٩٨٠. وعملًا بمبدأ «تصدير الثورة» تقوم إيران بإنشاء أذرع لها فى المنطقة مثل: حزب الدعوة العراقى- على غرار حزب الدعوة الإيرانى- وحركة أمل فى لبنان، ثم حزب الله فى لبنان أيضًا. كما تنجح إيران فى إحداث اختراق مذهبى فى اليمن، حيث شيعة اليمن الزيديين، لكنها تنجح عن طريق الحوثى وجماعته فى التقريب بين المذهب الزيدى، والمذهب الإثنا عشرى، المذهب الرسمى لإيران.
هكذا يمكن النظر إلى التوغل الإيرانى فى المنطقة الآن وتفسيره من خلال التاريخ، ومن مدخل جيو-سياسى.