صيف صعب.. شتاء أصعب.. لعنة الله على الحرب
لست ذلك الرجل الذى يخاف الشتاء.. ولست ذلك الرجل الذى يتعاطف مع موسم ويكره الآخر.. بالبلدى لا أنا من محبى الشتاء ولا من كارهيه.. لم تكن أيامنا فيها تلك الرفاهية التى تصلح لأن نختار فيها ما نحب وما نكره.. كل الأيام.. أيام ربنا.. هكذا تعلمنا.. وهذا ما عِشناه.
لكننى مثل الكثيرين من أهل الريف.. أعرف تفاصيل الشتاء.. وأحتاط له ما استطعت.. لكن يبدو أن العالم هذا الشتاء لن يستطيع أن يحتاط بما يكفى، فلقد فرضت الحرب شروطها على الجميع.. العالم الأول.. والعالم الثالث.. لا فرق.
أوروبا هذا الشتاء.. لم تعد مصدرًا للعلم.. والبهجة والبنات الجميلات.. لم تعد إلا مصدرًا للأخبار المزعجة بعدما سيطر على الناس فى شوارعها الذعر من تداعيات الحرب.
لم يكن الصيف الذى مضى مريحًا على أى حال.. كان صيفًا صعبًا.. فالبيوت والمتاجر والشوارع لم تكن قد تعافت بعد من أصداء «كورونا».. معظم الشركات التى كانت قد سرّحت عددًا لا بأس به من عمالها لم تعد للعمل بكل قوتها حتى فاجأتها حرب أوكرانيا.
الأوروبيون.. مثلهم مثل كل شعوب العالم.. لا يعنيهم إلا ما يطول قمصانهم.. فالنار هى بعيدة عن ذيول جلاليبنا فليحدث ما يحدث.. لكن الأمر الذى كان بعيدًا فى الصيف لم يعد كذلك وقد حلّ الشتاء.. فأول ما تأثرت به مدن أوروبا كان الغاز وباقى منتجات الطاقة.. الكهرباء أولًا.. وقد كان مشهدًا حزينًا أن يقرر أهل باريس مثلًا إطفاء برج إيفل قبل موعده بساعات لتوفير الكهرباء اللازمة.. كان مشهدًا عبثيًا ونادرًا أن يقرر عدد كبير من المقيمين فى بلجيكا البقاء فى دوام دون أجر فى مكاتبهم لتوفير التدفئة فى المنزل.. الملايين فى مدن أوروبا الآن يتعاملون بأخلاقيات الأزمة حتى يتمكن الفرد فيهم من الحصول على ما يكفيه بالكاد من شعور بالدفء.
القارة التى كانت تصدّر نور العلم والحضارة تستقبل الظلام بأوامر أهل الاقتصاد والسياسة حتى لا تتعرض المدن لإظلام كامل وبرد قاطع.
فى الصعيد.. فى الشتاء.. كنا من العصر نستعد للبرد الشديد بعد منتصف الليل.. كانت أعواد القطن الناشف التى تم تخزينها على أسطح المنازل كافية لأن نشعل الركية حتى مطلع الفجر ونستمتع بطعم الشاى «الزردة» وطعم البطاطا المشوية فى النار وأحاديث الأهل، العواجيز منهم بالذات.. ولما تطورت الأحوال ولم نعد نزرع قطنًا منذ سنوات.. وفقدنا فيما فقدنا مواسم المكافحة بأغنياتها وشمسها وضحكاتها.. فقدنا مواسم الجنى والحصاد وتكديس أعواد القطن الناشف.. فكان أن ذهبنا لشراء الخشب من المتاجر.. بالقنطار أو بالكيلو.. لكن ارتفاع أسعار الخشب فى السنوات الأخيرة دفع البعض للبحث عن بدائل.. الدفايات لم تعد بديلًا آمنًا فى ظل ارتفاع أسعار الكهرباء.. ولا حل إلا بالبحث عن بقايا جذوع النخيل وإن لم نجدها فليذهب كل فرد من العائلة للاختباء تحت البطاطين إلى الصباح.
أوروبا أيضًا ستعانى من ندرة الأخشاب.. ريف أوروبا يعانى فى الأصل من ندرة المواد البترولية التى يحتاجها فى الزراعة.. وهو الأمر الذى يدفع بأسعار الغذاء ومنتجاته وأسعار الفاكهة أيضًا لأرقام غير مسبوقة.
الأمر لم يعد فقط فى الإنارة.. لم يعد الأمر مقصورًا على اختفاء الناس من الشوارع المظلمة وإغلاق المسارح والسينمات قبل مواعيدها، لقد تجاوز العالم كله وأوروبا بالأخص ذلك إلى قدرة منشآت حيوية على العمل.. المصانع، مثلًا، تعتمد بشكل كبير وأساسى على الغاز.. وهو مقدمة المأساة التى يعيشونها حاليًا.
العقوبات التى تم توجيهها إلى روسيا.. كانت سببًا رئيسيًا فى ردة فعل يبدو أنها لم تكن محسوبة جيدًا.. الذين يشعرون بالبرد هناك الآن.. ذهبوا مرغمين مثلما ذهبنا نحن أيضًا لمتابعة نشرات الأخبار وآراء المحللين السياسيين وأهل الاقتصاد ليعرفوا إجابة لسؤال بات يؤرق الجميع.. متى تنتهى هذه الحرب؟
الأسبوع الماضى تصادف أن طلب منى أحد الأقرباء التوسط لدى منتجى السيارات أو أحد الوكلاء لتوفير سيارة ما.. كان سعرها منذ ما لا يزيد على ستة أشهر مضت فى حدود أربعمائة ألف جنيه مصرى.. ولأننى لم أكن مشغولًا بمتابعة أسعار السيارات لم أعرف أن هناك مياهًا كثيرة جرت فى النهر.. وعجبت أن سعر السيارة تلك وصل إلى المليون جنيه.. بعد إضافة ما يعرف بـ«الأوفر برايز».. والأغرب أن السيارة غير موجودة بالأصل.. هذا الجنون الذى ضرب سوق السيارات فى مصر.. والذى لم يفلح زملائى المتخصصون فى عالم السيارات فى تفسيره لى.. يضرب بأسواق المنتجات الغذائية أيضًا وبخاصة أسعار الزيت والورق والبلاستيك.. وجميعكم يعرف أن هذه المنتجات ضرورية وليست كالشاى والمعسل.. والسر فيما حدث، ولا يزال يحدث أيضًا، هو «الحرب».. لعنة الله على الحرب.
السؤال الذى ينتظر أهل أوروبا إجابته وهم محاصرون بشتاء صعب.. لا نجد نحن فى عالمنا العربى إجابة له أيضًا.. وكل ما نتلقاه من الشاشات مجرد سرد لما يحدث.. هنا أو هناك.. فمتى تنتهى الحرب إذن؟.. الكل يؤكد أنها حتى لو توقفت الآن.. فإن تداعياتها لن تتوقف حتمًا قبل أن ينتهى الشتاء.
وزارة الاقتصاد فى ألمانيا تقول إن مخزون الغاز لديها يتجاوز الثمانين بالمائة من احتياجات الشتاء.. وفرنسا أعلنت عن التزامها بتشغيل ٦٥ مفاعلًا نوويًا لتعويض نقص الغاز الروسى.. فهل هذا يكفى؟
البدايات تؤكد أن شعوب أوروبا لن تتحمل، وفى براغ تحديدًا بدأت موجات من المتظاهرين تندد بسياسات التشيك وتتهمهم بالتبعية لحلف ناتو.
أمريكا المشغولة باقتصادها.. وانتخاباتها القادمة.. لا تتحرك.. ولن تتحرك قبل ذلك الموعد للدفع بحل سياسى.. والأوروبيون يخشون «التجمد».
أما التجمد الذى يخشاه أهلنا هنا فى مصر.. فهو «وقف الحال».. تعودنا نحن على احتمال البرد والصهد معًا.. لكن ما يخشاه الجميع هو عدم القدرة على «العمل» على «الحركة».. على توفير احتياجاتنا وبالأخص ما يرتبط منها باحتياجات أطفالنا الذين يستقبلون عامًا دراسيًا جديدًا فى ظل شتاء هو الأصعب على العالم كله منذ سنوات.. مرة أخرى.. لعنة الله على الحرب.