المصيف زمان.. «رأس البر»
إن المتابع لتحولات المصايف المصرية فى العقود الأخيرة يخرج بنتائج مهمة توضح إلى حد كبير كم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التى مر بها المجتمع المصرى، وتعتبر رأس البر من أهم النماذج الدالة فى هذا الشأن.
فى عام ٢٠٠٩، وقبيل الربيع العربى، أعد أحد الصحفيين المصريين تحقيقًا صحفيًا فى جريدة عربية شهيرة حول رأس البر، ووضع المحرر عنوانًا ساخنًا وساخرًا للموضوع: «رأس البر: مارينا الغلابة!»، وفى رأيى أن هذا العنوان من العلامات الدالة فى شأن تحولات المصايف ومتغيرات المجتمع المصرى. وبداية علينا أن نأخذ هذا العنوان فى إطار السنوات القلقة قبيل ٢٥ يناير، وارتفاع السخط حول التفاوت الطبقى فى المجتمع المصرى، ويتذكر من عاش هذه السنوات المقالات الصحفية الحادة، والنكات الساخرة حول مارينا ومجتمع مارينا.
الجدير بالملاحظة الحديث آنذاك عما عُرِف بـ«لسان الوزراء» فى مارينا، وهى أفخم منطقة فى مارينا، حيث شُيّدَت الفيلات الخاصة بالوزراء وكبار المسئولين، والأسعار الفلكية لهذه المبانى، والحفلات الخاصة والعامة هناك. والمثير أيضًا أن أفخم منطقة فى رأس البر كانت منطقة اللسان! ولكن شتان بين اللسانين من حيث طبيعة المصيفين وأسعار المبانى، ونمط الحياة الاجتماعية اليومية. وربما من المثير الآن المقارنة بين مارينا قبل ٢٥ يناير، ومارينا بعده؛ إذ ستفقد مارينا بريقها وتاريخها القصير لحساب مواقع أخرى، وأصبحنا نسمع عن الساحل الطيب والساحل الشرير.
عودة مرة أخرى إلى رأس البر أو ما أُطلِق عليه فى عام ٢٠٠٩ «مارينا الغلابة»، فى الحقيقة يتنافى هذا الوصف مع تاريخ رأس البر كمصيف، لا سيما فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى؛ إذ كانت رأس البر بحق هى مصيف الصفوة المصرية، وتعتبر الصور الفوتوغرافية من المصادر التاريخية غير التقليدية المهمة، لأنها تسجيل للحظات مهمة فى تاريخ الإنسان. ومن أهم الصور الفوتوغرافية المتعلقة بتاريخ رأس البر هناك صورة لكوكب الشرق أم كلثوم فى مصيفها المفضل فى الأربعينيات فى رأس البر. وإذا نظرنا إلى مَن حول أم كلثوم سنجد بحق صفوة المجتمع آنذاك، على سبيل المثال: الشاعر الكبير كامل الشناوى، والصحفى الشهير آنذاك محمد التابعى، والأستاذ هيكل ومصطفى أمين، وسليمان بك نجيب الممثل الشهير ومدير دار الأوبرا الملكية.
ولدينا مصدر آخر يحدثنا عن رأس البر فى تلك الفترة، وهو الكتاب المهم للشيخ الأزهرى الشهير «أحمد الشرباصى»؛ إذ وضع الشيخ كتابًا فى محبة رأس البر، مصيفه المفضل، وفى مطلع هذا الكتاب ينبهنا الشيخ إلى النقص الحاد فى المكتبة العربية فيما يُعرف بأدب الشواطئ، وكيف أوحت له رأس البر بالكتابة فى هذا اللون الأدبى.
ويعطينا المؤلف إشارات مهمة حول الطابع الكوزمبوليتانى لرأس البر آنذاك، فجميع المطاعم والمقاهى والبارات يملكها يهود أو يونانيون أو إيطاليون أو فرنسيون مثلها مثل الإسكندرية تمامًا.
وفى عبارات بليغة يصف الشيخ الأزهرى ولعه برأس البر قائلًا: «هذا هو المصيف المصرى الهادئ الجميل، هذا ملتقى النيل الكريم بالبحر الوسيع، هذا مجال الشباب والفراغ والجدة.. هذه بقعة جمّلها الله بأفضل ما جمّل كونه العريض، هذه رأس البر، فانسَ كل شىء، وودع كل هم، واترك كل شاغل من شواغل دنياك».
ألم أقل لكم إن تحولات المصايف مؤشر مهم لرصد المتغيرات فى المجتمع المصرى.