حماية الثقافة المصرية
منذ زمن بعيد لم يتحدث أحد بجدية فى الشأن الثقافى، يوجد جدل فقط طوال الوقت، وتوجد معارك جانبية تحركها أهواء الباحثين عن مناصب أو جوائز أو مزايا غائمة، وإذا عقدت ندوة جادة، تُعقد فى قاعة ضيقة يحضر فيها عدد محدود من المتابعين، وبعضها ينتهى بتوصيات لا يقرأها ولا يعمل بها أحد. باستثناء برنامجين أو ثلاثة لا توجد منابر إعلامية مهتمة بالموضوع، الذى لا يجذب المعلنين ولا الجمهور الذى تم توريطه فيما يريده صناع المحتوى.. قطاع كبير من المثقفين فقد الأمل فى التواصل، وأصبح متابعًا ومعلقًا على أحداث جماهيرية، فى الرياضة، حول صورة لفنانة كبيرة كبرت فى العمر، فى أزمة شيرين، فى طلاق فلانة وزواج فلان.. المثقف الحقيقى ينتج بعيدًا عن هذه الأجواء.
وقد سعدت كثيرًا بدراسة الأستاذ نبيل عبدالفتاح، التى نشرها أمس الأول فى الدستور تحت عنوان «تجديد الثقافة المصرية .. مطلب عاجل»، أولًا لمحبتى لصاحب الدراسة، الذى يمارس العمل النقدى بروح فنان، ولأنه يريد بالفعل فتح حوار حقيقى حول ما آلت إليه الأمور وكيفية استثمار قوة مصر الثقافية فى الارتقاء بالوعى فى الداخل، وأيضًا تأكيد حضورك فى العالم كصاحب منجز تاريخى وآنٍ.
هو يرى أن الخطاب الرسمى خطاب ينتمى إلى الماضى، وأنه لم يعرف طريقه للمستقبل بعد، خطاب بدأ منذ ثورة ١٩١٩، وما بعدها فى المرحلة شبه الليبرالية، وحالة الأسئلة التى كانت تُطرح على العقل المصرى، والتى اتسمت بالشجاعة حينًا وبالصدمة للعقل التقليدى السائد، والسعى إلى حالة من التحرر العقلى والاجتماعى والسياسى والاستقلال الوطنى، خاصة فى المرحلة شبه الليبرالية التى يرى أنها انتهت مع ثورة يوليو، وهنا تذكرت كتاب فتحى رضوان «عصر ورجال» الذى اعتبر إنجاز رموز هذا العصر فى النصف الأول من حياتهم ما هو إلا كتب تضم مقالاتهم مثل «فى أوقات الفراغ» لهيكل، ومطالعات فى الكتب والحياة، وساعات بين الكتب، ومراجعات فى الآداب والعلم عند العقاد، وحصاد الهشيم وقبض الريح عند المازنى، وما إلى ذلك.
ويرى أنهم منذ البداية كانوا عاجزين عن أن تكون لهم نظرة شاملة لأمر من الأمور السياسية أو الأدبية، وأنك إذا فرغت من قراءة ما كتبه العقاد والمازنى وهيكل فلا تعرف بالضبط ما الذى يريده أى منهم، ثم لا تعرف الفارق بين الواحد منهم والآخر، فيما عدا الفوارق المادية من حيث الوضوح أو جزالة الأسلوب ورخاوته، لأنهم أبناء مدرسة واحدة، وقد انتقلوا جميعًا إلى التأريخ للإسلام والدفاع عنه، وختموا حياتهم الفكرية بهذا التطور، وكأنهم جميعًا على موعد فى كل خطوة يخطونها، بعد أن تقرأ عبقريات العقاد وكتب هيكل عن محمد وأبى بكر وعمر وكتب غيرهم، تتساءل: ما الفرق بين هيكل والعقاد وغيرهما حينما لم يكونوا يذكرون الإسلام إلا نادرًا، وبينهم حين وجهوا جهدهم ودراستهم إلى الإسلام؟.
كان رأى فتحى رضوان أن رموز ما بين ثورتى ١٩١٩ و١٩٥٢ من المفكرين، كما كانوا يؤلفون فى النصف الأول من حياتهم عن روسو وجوته وبيكون كتبًا، وكما كانوا يكتبون مقالات عن فرانس ونيتشه وعن الفلسفة الغربية وزعماء الفكر الأوروبى، كتبوا فى النصف الثانى عن الإسلام ونبيه وصحابة رسوله الكريم وعن أثره وفلسفته، فما من شىء تغير بتغير موضوع دراستهم وكتاباتهم، وما من شىء تأثر فى أسلوب تفكيرهم، وكان الطبيعى- كما يقول رضوان- وقد بلغ الإعجاب عندهم بالإسلام إلى هذا الحد الكبير، أن ينعكس على مسلكهم فى الحياة العامة وعلى تفكيرهم السياسى، وهم رجال سياسة وصحافة، هذا القدر من الإعجاب، ولكنك لا ترى له أثرًا، وليس هذا إلا مظهرًا كاشفًا عن موقف كتّاب هذا الجيل كله، لأن الكتابة، من وجهة نظر صاحب «عصر ورجال»، لم تكن معاناة روحية.
«نبيل» يرى أن ما أنجزه جيل الستينيات هو حصاد هذه الفترة، وهذا صحيح، ولكن النظام «الناصرى» شيّد صروحًا ثقافية بأموال الشعب، لصالح الشعب الذى يبنى ويزرع وتتسع طبقته الوسطى بفضل مجانية التعليم.. كراهية رجال الحكم بعد ذلك للثقافة والمثقفين هى سبب الأزمة الحالية، والاستعانة بأساتذة الجامعة من كليات الآداب لشغل المواقع القيادية، بدأت مع رفض رموز العمل العام العمل مع منظومة السادات السياسية، التى سمحت للمتشددين الدينيين فى مؤسسات الدولة بحصار المبدعين وتكفيرهم، أو الإبلاغ عنهم لأنهم أصحاب رأى مختلف، ثم جاء عصر مبارك، عصر الألوان الزاهية والمهرجانات وتوزيع الغنائم، توجد لا شك بعض الأشياء الإيجابية، ولكن ماذا كانت النتيجة؟، الدولة تنفق على الثقافة والإعلام والتعليم ووزارة الأوقاف، لماذا؟، لكى لا يخرج متطرف يهدد المخالف له فى الدين، لكى لا يحدث تمييز بين المواطنين على أساس الدين أو اللون أو المنطقة الجغرافية، حتى لا يوجد حزب سلفى، حتى لا تصل جماعة الإخوان الإرهابية إلى الحكم، حتى تزدهر صناعة السينما وصناعة الغناء، والمسرح وصناعة الكتاب وترجمة ما تنتجه الثقافات العالمية، وهى أشياء لم تحدث، رغم المظاهر الاحتفالية الموسمية، المواطن البسيط هو المستهدف، المثقفون العتاة يعرفون ماذا يريدون ويذهبون إليه.
نبيل عبدالفتاح قدم تشخيصًا دقيقًا لحالة التردى التى أصابت العمل الثقافى، ولست معه فى اختيار عنوان تجديد الثقافة المصرية، الثقافة موجودة ومزدهرة، ولكن هناك من ينفّر الناس منها ومن منتجيها، بعضهم من الداخل، والبعض الآخر مدفوع من جهات غير مصرية تحاول أن تجرد مصر من روحها، وستفشل بالطبع. العنوان المفضل لى هو «حماية الثقافة المصرية»، والترويج لها، ومنح منتجيها مزايا تليق بالدور النبيل الذى يقومون به، وحراسة المواهب الكبيرة، حتى لا يستفرد بهم المتشددون الدينيون والوشاة. والصحافة والإعلام عليهما دور كبير لا يقومان به، لأن الصحافة، كما قال ألبيرتو إيكو، لا يجوز أن تتخلى عن بلورة الذائقة العامة ورسم وجهها، ويرى أن هيمنة المجموعات الاقتصادية الكبيرة أضرت بها وجعلتها أمام خيارين، إما تثقيف القارئ وإما اللحاق بذائقته، وأن المشكله هى الزيف، واعتماد نظرية المؤامرة، التى هى الجسر الذى رفع المسئولية عن طرف ما، وتعفينا جميعًا من المسئولية.
دراسة نبيل عبدالفتاح فى غاية الأهمية، ومن الصعب التعليق على كل ما تحتويه، وفى النهاية اعتراضى على كلمات مثل تجديد أو القوى الناعمة ناتج عن تاريخنا معها، منذ فترة ليست بعيدة قررت وزارة الأوقاف نصب أكشاك للفتوى فى محطات المترو، فكتبت سيدة «لما نحب نجدد الخطاب الدينى .. ندهن الكشك»!.