المصيف زمان.. بورسعيد
مَن منا لا يعرف بورسعيد؟ البعض يعرفها من خلال صورة بورسعيد الباسلة، أو ستالينجراد، نتيجة المقاومة الشعبية للعدوان الثلاثى. ويعرفها البعض الآخر من خلال صورة المدينة الحرة، والسلع المستوردة والانفتاح الاقتصادى، وهو ما عكسته السينما المصرية فى العديد من الأفلام لا سيما فيلمى «أهل القمة» و«المشبوه». ولكن دعونا نرجع للتاريخ لنتعرف على ما هى بورسعيد؟
بورسعيد مدينة حديثة نسبيًا؛ إذ ترجع نشأتها الحقيقية إلى حفر قناة السويس فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، ونشوء بعض المدن الجديدة على ضفتى القناة، كان من أشهرها بورسعيد، التى تعنى «ميناء سعيد» نسبة إلى سعيد باشا والى مصر، الذى أصدر امتياز حفر القناة. وتتمتع بورسعيد بصفة المدينة الميناء، فهى ميناء فى الأساس على المدخل الشمالى للقناة، لكنها أيضًا مدينة متوسطة الحجم. كما تتمتع بورسعيد بظهير آسيوى على الضفة الأخرى من القناة، وهى مدينة بورفؤاد، أى ميناء فؤاد، نسبة إلى الملك فؤاد. وكانت لبورسعيد أهمية كبرى فى تاريخ طرق التجارة الدولية، عندما كان النقل البحرى هو الأساس فى حركة النقل والتجارة. ويتحدث الكاتب البريطانى كيبلنج عن هذا الواقع قائلًا: «إذا كان لك صديق لم تره من فترة طويلة، لا عليك إلا أن تجلس فى ميناء لندن أو ميناء بورسعيد، وبالتأكيد سيمر عليك!».
ولا نستطيع أن نوفى تاريخ بورسعيد حقه فى أسطر قليلة، كما أن ما يهمنا هنا هو بورسعيد كمصيف. ولا بُد أن أذكر مصادر المعلومات عن هذا المقال؛ بداية كان الاعتماد على الكتاب الذى أصدره المعهد الفرنسى للآثار الشرقية عن بورسعيد، ثم الشهادة الشفهية من الأصدقاء الأعزاء من كبار الكُتّاب والمفكرين ذوى الأصول البورسعيدية، مثل المفكر الكبير طارق حجى، والسياسى والمفكر سيد كراوية، وأيضًا الروائى الكبير شريف العصفورى.
تميزت بورسعيد عن غيرها من المصايف بأنها كانت فى البداية مصيفًا لأهلها فقط، ويرجع ذلك إلى مستوى الثراء والتنوع الاجتماعى لسكانها، خاصة مع وجود جاليات أجنبية، حتى المصريين كان معظمهم إما موظفين فى هيئة قناة السويس، أو من ذوى الأعمال الحرة المرتبطة بالبحر، ساعد فى ذلك صعوبة المواصلات إلى حد ما إلى بورسعيد التى كانت تتركز فى السكك الحديدية.
وتزخر ذاكرة أهل بورسعيد بذكرياتهم حول مصيفهم الهادئ، وأكل «البكلويز» وهو شبيه الجندوفلى فى الإسكندرية، والسردين قبل إنشاء السد العالى وانقطاع الطمى. ويذكر هؤلاء دهشة المفكرين القاهريين عندما يدعوهم أصدقاؤهم البورسعيديون للتصييف فى بورسعيد، حيث تتحول دهشة هؤلاء إلى إعجاب وولع ببورسعيد، التى تتمتع بكونها مصيفًا راقيًا ومدينة عامرة بالمقاهى والكازينوهات والمطاعم. ويزور يوسف إدريس بورسعيد ليعود إلى القاهرة ويكتب مقالًا فى جريدة الجمهورية فى عشق بورسعيد، كما اعتاد كل من صلاح جاهين ونعمان عاشور وحلمى التونى على التصييف فى بورسعيد.
لكن بعد حرب ٥٦، وشهرة بورسعيد فى هذه الحرب حيث حدث تحول جذرى فى تاريخ المدينة كمصيف؛ إذ أصبحت بورسعيد قِبلة للتصييف، وانفتحت لغير أهلها. لكن هذا الوضع الجديد سيتوقف مع عدوان ٦٧، وتدمير المدينة وتهجير معظم أهلها. وبعد عودة أهل بورسعيد إليها مع عام ١٩٧٥، ستحدث تحولات مهمة فى بنية وطبيعة سكان المدينة، مع تحولها إلى مدينة حرة، وتجارة المستورد. وكانت بورسعيد قد فقدت من قبل طابعها الكوزموبوليتانى بخروج الأجانب، ثم سيتراجع دور الطبقة الوسطى فيها، كما تراجع فى مصر كلها، وستساعد أجواء المدينة الحرة على مجىء هجرات جديدة معظمها من أصول ريفية محافظة. يضاف إلى ذلك ارتفاع أسعار الأراضى والمبانى، والتركيز على الطابع التجارى للمدينة، وتسلل التيار الدينى إليها، كما حدث للإسكندرية، وستزداد أهمية الجار القريب «رأس البر» كمصيف، وكذلك جمصة.
هكذا لعبت عوامل عديدة دورًا فى عدم تألق بورسعيد كمصيف لغير أهلها، رغم روعة وجمال شاطئ المدينة.