طلقة إسعاد يونس
لا أذكر متى بالتحديد شاهدت لأول مرة فيلم عاطف الطيب البديع «البرىء».. أظنه كان فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى.. وقتها كنت لا أزال طالبًا فى الثانوية العامة.. وشاهدت الفيلم وسط جمهور صعيدى بسينما أوبرا بسوهاج.. أيام كانت هناك سينمات فى سوهاج.
بعدها شاهدت الفيلم عشرات المرات.. عند إعادة عرضه فى التليفزيون.. وعلى شرائط الفيديو التى كانت تباع بشارع الشواربى وما زلت أحتفظ بنسخة الفيلم حتى هذه اللحظة رغم عدم وجود جهاز للعرض.
وفى كل مرة من كل هذه المرات التى شاهدت الفيلم فيها.. كنت أجدنى وقد تبللت وجنتاى بالدموع عند مشهد معين.. كان المشهد لحظة رجوع المجند أحمد سبع الليل فى إجازة من الخدمة الوطنية ليجد أمه التى كانت تقوم بدورها ناهد سمير وهى تحمل الفأس وتعزق فى الغيط.
لا أجد سببًا معينًا لذلك التعاطف مع المشهد بعيدًا عن أداء أحمد زكى وناهد سمير المدهش.. ولا موسيقى عمار الشريعى المصاحبة.. فقط كنت أتذكر أننى رأيت ذلك المشهد على الطبيعة مئات المرات عند عودة المئات من جيرانى من الغربة.. أى غربة.. وارتماء الابن فى حضن أمه.. سواء كانت تعزق فى الغيط أو تحلب الجاموسة أو تغسل المواعين من ماء الطلمبة الارتوازى.
كان الكثيرون من أهل قرى الصعيد قد نزحوا إلى ليبيا والعراق وتركوا زوجاتهم فى المنازل وحيدات يحكمن ويعملن ليس داخل الدور فقط ولكن فى الغيطان أيضًا.
لم أستغرب المشهد.. فقد عشته ورأيته وتعايشت مع كل تفاصيله لسنوات قبل أن تهجر النساء والرجال معًا تلك الغيطان التى جرفت وحل محلها الأسمنت وقمائن الطوب الأحمر.
تذكرت ذلك كله وكأنه يحدث اليوم وأنا أتابع تلك المعركة الهزلية التى لا أعرف كيف بدأت حول إلزام المرأة بخدمة زوجها أو رعاية أسرتها أو رضاعة طفلها دون أجر.
يا نهار أغبر.. ألم تكن تلك الأم التى تصحو من النجمة لجمع روث البهائم وحلب الأبقار وخض اللبن فى القربة وتجهيز المواجير لخبيز العيش الشمسى قبل أن تطلع الشمس.. ألم تكن تعرف تلك المرأة أنها غير ملزمة.. ألم تسأل يومًا إذا ما كان هؤلاء الشياطين الذين يتدلون من طراطيف ديل جلابيتها الزرقاء بلون طمى الأرض يستحقون رعايتهم وحمايتهم فى غياب رجل الدار المهاجر تستحق أجرًا من عدمه؟.. هل ذهب تعب أمهاتنا طيلة تلك السنوات أدراج الرياح بعدما اكتشفت إحداهن فى لحظة تجلٍ بعد أن شربت النسكافيه «تلاتة فى واحد» أن كل هؤلاء النسوة لم يكن نساء بل، كُن عبيدات أضعن حقوقهن النسوية؟!
الأغرب أن هناك من راح يدافع.. ومن راح يهاجم.. ومن يبحث عن سند شرعى من عدمه لدرجة أن الأزهر الشريف أصدر بيانًا.. بعدما زاط كل من زاط.. ما هى هذه النخبة التى تذهب بنا إلى مستنقع التفاهة.. عمومًا لم تطل حيرتى كثيرًا فربما دون قصد أطلقت إسعاد يونس وفريق برنامجها «صاحبة السعادة» ودون أن تقصد رصاصة أنهت هذا المولد المنصوب بلا هوادة على الفضاء الإلكترونى.
ربما دون عمد.. ودون قصد.. كانت الحلقة التى استضافت فيها إسعاد لاعب الكرة مؤمن زكريا وزوجته صفعة على وجه هؤلاء المتنطعين، أعادت إلى ذلك الفضاء الخائب رشده.
حكت الزوجة التى لم تتحدث كثيرًا عما فعلته إلى جوار زوجها، وعن رحمة الله وعن كرمه.. وتحدث اللاعب الذى يحبه جمهور الكرة على مختلف انتماءاته بقليل من الإشارات عن وقفة زوجته بنت البلد الأصيلة معه.. عن محبتهما.. عن «شغلها» الذى حدده بأنه، هو شخصيًا، شغلها مع ابنهما مالك.
الكثيرون ممن أعرفهم أبهجهم هذا الجو المصرى الذى تعودناه حتى استكثره علينا من يدعون أنهم نخبة، وأنهم يتحدثون باسم حقوق الإنسان.. والنساء فى المقدمة من البشر أجمعين.. أعادت زوجة مؤمن زكريا، التى لا أعرف اسمها ولكنى أتابعها يوميًا فى الشارع.. وشاهدتها سنوات طوال فى العمل وفى المدرسة وفى قريتى.
ألعن ما فى الأمر.. أن تلك الأسئلة التى تعبث بكل ما هو بديهى.. لم تكن وليدة اللحظة.. ولكنّ شعورًا ما ينتابنى أننا مستهدفون.. من بشر لا أعرفهم، وجهات لا أعلمها بغرض إبعادنا عن أى عمل حقيقى.. عن أى منتج فكرى وإنسانى يدفع بنا إلى الغد.. «يزقنا لقدام».
وليس غريبًا أن يحدث ذلك وسط تلك الحالة المفرطة من التشاؤم التى تعمد البعض إشاعتها طيلة الأشهر الثلاثة الماضية.
لا أحد ينكر أن العالم بمر بأزمة اقتصادية غير مسبوقة وأن منقطة الشرق الأوسط تعتريها تحولات قاسية من قبل الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة كورونا.. ربما تعود إلى ما قبل ما عرف بالربيع العربى وتداعياته.. ولا أحد ينكر أن الطبقات الفقيرة هى التى تدفع ثمن كل هذه التقلبات.. لكننا أيضًا ندرك أننا نعمل.. وأن بلادنا استعادت كثيرًا مما فقده الكثيرون من حولنا.. ومما فقدناه أيضًا.
بلادنا كانت وستظل أكبر من كل تلك الأنواء ولا ينطلق هذا الفهم من شيفونية مريضة أبدًا.. بل من فهم وإدراك لطبيعة الشعب المصرى وقدرات أبنائه وفى القلب من ذلك نساء هذه البلاد.
لمن يريد أن يتأكد وأن يعرف.. عليه أن يراجع «شخصية مصر».. تلك الموسوعة المبدعة للمبدع الراحل جمال حمدان.. وعليه أن يقرأ تاريخ ملكات مصر ما بعد طوفان موسى.. وأن يكحل عيونه بما هو مكتوب على جدران المعابد عن أم أحمس التى لملمت أحزان مدينتنا وأحزانها حتى انتصر جيشها على الهكسوس.
عليهم مراجعة ما هو أقرب من تاريخ مصر وسيدات مصر ورجالها فى فترة الاستنزاف لسبع سنوات كاملة أعادت فيها البلاد لملمة كل ما تهلهل فى نكسة يونيو بعد حصار أقسى وأضل فى حروب لم تتوقف منذ أعلن عبدالناصر وتأميم القناة.
هذه الفوضى غير الخلاقة التى حاول البعض- بإدراك أو بغير قصد أو دون- تسويد شاشات فضائنا بها.. حلقة واحدة من برنامج تليفزيونى مسحتها بأستيكة.. والعابثون قطعًا لن يتوقفوا عن عبثهم.. والمفسدون قطعًا لن تتوقف محاولات إفسادهم.. والمتشائمون ومن يغذون أرواحهم بكئوس الإحباط لن يتوقفوا قطعًا.. لكننا أيضًا لن نتوقف عن مواجهتهم وعن مواصلة سعينا وكدنا فى أحضان أمهاتنا البسيطات المؤمنات الصابرات القادرات.