أسبوع طه حسين على صفحات «الدستور» (4).. أيام طه حسين
حرم نفسه من الأكل بالملعقة حتى لا يكون مثار شفقة الآخرين أو تندرهم
أحس أنه طفل ضرير وضعيف فقرر إثبات نفسه من خلال التفوق فى حفظ القرآن
كتب قصة حياته من الكُتاب حتى الدكتوراه ولم يتسع الوقت ليكتب عن حياته بعد ذلك
من بين جميع مؤلفات «طه حسين» وكلها عظيمة بمعنى ما.. يكتسب «الأيام» مكانة خاصة فى نفوس المصريين.. إنه سيرة حياة تثبت أن الانتصار على العجز ممكن.. وأن الفقر لا يمنع الإنسان أن يكون شيئًا إذا أراد.. وأن العلم هو سلاح الفقراء الأول فى الحياة إذا أرادوا مسلكًا شريفًا.. وأن التمرد ليس عيبًا ما دام مستندًا إلى عقل راجح وجهد يبذله صاحبه، وإذا كان هدفه منه البناء لا الهدم.
كتب طه حسين «الأيام» فى وقت كان يمر فيه بأزمة مع إدارة الجامعة.. نظر وراءه واسترجع رحلة أيامه فى ثلاثة أجزاء.. أولها وهو طفل فى القرية.. واحد من ثلاثة عشر أخًا.. ضرير وصغير.. كان يمكن أن يكون نسيًا منسيًا.. لكنه قرر أن يحفظ القرآن كاملًا فى عمر التاسعة، فأثبت لهم أنه يستطيع ما لا يستطيعون.
والثانى يسجل أيامه فى الأزهر.. فقير للغاية وصغير السن لكنه يناقش كبار المشايخ حتى يرهقهم، وحين يجرح أحدهم إحساسه ويقول له «ما بك حاجة إلى الجدال يا أعمى» يرد له الصاع صاعين ويفحمه ثم يقرر أن يقاطع مجلسه إلى الأبد ثم ينتقل إلى الجامعة.. والثالث يسجل فيه ميلاد الحلم المصرى فى جامعة أهلية، وكان طه هو حلم مصر فى النهضة ويسجل سفره لفرنسا واجتهاده ولقاءه شريكة عمره «سوزان» ثم عودته.. وللأسف الشديد لم يتسع الوقت للعميد ليروى بقية قصته لتكون درسًا لنا جميعًا كما كانت الأجزاء التى سجلت طفولته.. فى السطور التالية وقفات أمام رحلة العميد كما سجلها فى «الأيام».
يقولون إن الأشياء ليست كما يبدو، فما نظنه نحن خيرًا قد يكون عكس ذلك، وما نظنه عجزًا قد يكون قدرة، وما نظنه ظلامًا قد يكون هو النور، وكتاب الأيام لطه حسين بعيدًا عن قيمته الأدبية واللغوية، وعن قيمة كاتبه بوصفه عميد الأدب العربى، هو كتاب فى الأساس يجعلنا نعيد طرح الأسئلة تجاه المفاهيم، تجاه كل ما نظنه حقيقيًا، لأنك بعد أن تقرأ الكتاب ستراجع نفسك كثيرًا حين تظن أن هذا الكفيف أو أى شخص من أصحاب الهمم هو مجرد إنسان عاجز، بل ستحاول البحث عن مفهوم جديد للعجز وللقدرة، كما أن الكتاب يطالبنا بضرورة النظر إلى أنفسنا، ومن ثم النظر إلى مجتمعنا وواقعنا ثم العالم أجمع.
الكتاب عبارة عن رحلة ليست فقط فى أيام الكاتب، بل رحلة فى أيامنا نحن أيضًا، رحلة نرى فيها ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، رحلة نسير فيها مع الكاتب خلف صبى كفيف يناديه الكاتب أحيانًا بصاحبنا لنرى من خلال عقل وفكر هذا الصبى كل شىء له علاقة بنا نحن.
بداية من الجهل الذى كان سببًا رئيسيًا فى أن يفقد الصبى عينيه، وأن يختفى النور من أمامه ليكمن بداخله، والحقيقة أن الجهل الذى جعل الصبى الصغير لا يرى من العالم سوى عتمته زرع فى الصبى كرهًا نحو كل ما يدفعنا إلى الجهل كمجتمع، حتى لا يصير الناس جميعًا مكفوفين بسبب هذا الجهل.
هذا الصبى الصغير نظر إلى نفسه وإلى من حوله، فأحس «أن لغيره عليه فضلًا. وأن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع. وينهضون من الأمر ما لا ينهض به، وأحس أن أمه تأذن لإخوته فى أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يحفظه. ولكن لم تلبث الحفيظة أن استحالت إلى حزن عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به. فعلم أنهم يرون ما لا يرى».
وحين شعر الطفل بهذا قال فى أعماق نفسه إنه لن يكون لأحد عليه فضل بعد الله، بل سيكون هو صاحب فضل على الجميع، على من حاول تغيير حياتهم، من حاول أن يضىء أمامهم الطريق المعتم، أن يجعلهم يرون الحقيقة التى لا تدركها الأبصار، وهكذا ومنذ هذه اللحظة التى شعر فيها بأن إخوته يرون ما لا يراه هو، تأكد لديه أنه سيعمل على أن يكون هو الذى يرى ما لا يراه إخوته أو أحد.. تمثل له الجهل كوحش هائل.. لا سبيل للخلاص منه سوى التحدى والإرادة والعلم.
وفى سبيل ذلك تنازل وحرم نفسه من أشياء كثيرة «حرم على نفسه ألوانًا من الطعام لم تبح له إلا أن جاوز الخامسة والعشرين. حرم على نفسه الحساء والأرز، وكل الألوان التى تؤكل بالملاعق لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة. وكان يكره أن يضحك عليه إخوته، أو تبكى أمه، أو يعلمه أبوه فى هدوء حزين».
وفى لحظات كثيرة شعر هذا الطفل بأنه وحيد، بعيد بهمومه وأسئلته، وأن لا وجود لشخص يسمعه أو يشعر به مثله مثل التائه فى صحراء قاحلة.. «كان يرى نفسه إنسانًا من الناس ولد كما يولدون، وعاش كما يعيشون، مقسم الوقت والنشاط فيما يقسمون فيه وقتهم ونشاطهم. ولكنه لم يكن يأنس إلى أحد، ولم يكن يطمئن إلى شىء، قد ضرب بينه وبين الناس والأشياء حجاب ظاهره الرضا والأمن، وباطنه من قبله السخط والخوف والقلق واضطراب النفس، فى صحراء موحشة لا تحدها الحدود، ولا تقوم فيها الأعلام، ولا يتبين فيها طريقه التى يمكن أن يسلكها، وغايته التى يمكن أن ينتهى إليها».
ولكنه كان وكلما تحركت شهوته تجاه أى نوع من الطعام أو الملبس أو أشياء لا يستطيع شراءها أكد لنفسه أن الثراء والسعة وخفض العيش أشياء تعوق طلب العلم، وأن الفقر شرط للجد والكد والاجتهاد والتحصيل، وأن غنى القلوب والنفوس بالعلم خير وأجدى من امتلاء الجيوب والأيدى بالمال».
هذه الحقيقة هى التى آمن بها منذ طفولته، أن غنى القلوب والنفوس بالعلم أهم من كل الشهوات والمطامع، والحقيقة أيضًا أن هذا الصبى كان يبحث عن إثبات نفسه، وكان عليه أن يثبت نفسه أولًا داخل بيته وأمام أسرته، ولكن كيف سيفعل ذلك، وهو سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقائه، من سينتبه إليه أو ينظر إليه، حتى إنه كان لا يستطيع اللعب مع الأطفال، ولذلك «حرم على نفسه ألوان اللعب والعبث وكل شىء، إلا ما لا يكلفه عناء ولا يعرضه للضحك أو الإشفاق، فكان أحب اللعب إليه أن يجمع طائفة من الحديد وينتحى بها زاوية من البيت فيجمعها ويفرقها ويقرع بعضها ببعض، ينفق فى ذلك ساعات».
ولكن الطفل من هذه الوحدة تعلم أهمية الاستماع، فقد كان يحب سماع حديث الرجال إلى أبيه، والنساء إلى أمه، ومن الشعراء يستمع إلى قصص عنترة والظاهر بيبرس وغيرهما من السير والحكايات الشعبية، التى شكلت وجدانه وأثارت خياله.
ولكن يبقى الطفل وحيدًا ومعزولًا، لا يجد شيئًا يلقى نفسه بداخله، حتى بعد أن حقق الطفل الانتصار الأول، وهو أنه أصبح شيخًا وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره، لأنه حفظ القرآن، ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه، ولكن الطفل المتمرد لم يلبث سوى أيام معدودات حتى يشعر بالسأم تجاه لقب الشيخ بل يزدرى هذا اللقب، لأنه يرى أن مكانته أرفع من هذا وأسمى من ذلك، وأنه بعد لا يزال يسير وفى قدميه الحذاء المرقع، وعلى رأسه العمامة التى لا تنظف سوى مرة وحيدة فى الأسبوع، والتى استحال بياضها إلى سواد قاتم، لأنه لا يملك غيرها، وشعر بأن رضا أبيه وأمه عنه قد يظلمه.
وظل الشعور الذى يراوده منذ زمن والمدفون فى أعماقه يتأكد لديه وهو «أن الحياة مملوءة بالظلم والكذب». ولكن فى الوقت نفسه كان قد تأكد أنه لا سبيل أمامه سوى أن يلقى بنفسه فى أحضان المعرفة والعلم.. كملجأ وحيد له.
ولذلك لم يتوقف الطفل عند هذا الحد من العلم، أى أنه لم يكتف بحفظ القرآن، بل إنه وبعد بحث لم يجد حلًا آخر لاكتساب المزيد من المعرفة سوى الذهاب إلى الأزهر لحضور دروس العلم، وهناك يبدأ رحلة جديدة يتحمل فيها أشياء كثيرة من أجل العلم فقط، فبالإضافة إلى الفقر المتمثل فى الملبس والمأكل، تحمل خبز الأزهر «وويل للأزهريين من خبز الأزهر إن كانوا ليجدوا فيه ضروبًا من القش وألوانًا من الحصى وفنونًا من الحشرات».
ولكن هذا الشخص الذى «كان يشعر شعورًا غامضًا.. بأن العلم لا حد له، وبأن الناس ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه إلا أيسره. وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع» رفض رفضًا تامًا وقاطع كثيرًا من العلوم التى تقدم إليه داخل الأزهر، وشعر بأن هناك علومًا أخرى يجب أن يدركها، فمال إلى الأدب ينهل من بحره المزيد من المعرفة، ولكن أمام عينيه كان يتمثل له المستقبل مقبضًا.
فهو لا يرى نفسه فى أى حال من الأحوال مجرد شيخ يجلس أسفل عامود وحوله التلاميذ يشرح لهم درسًا فى الفقه أو النحو، ولم ير نفسه كأقرانه من المكفوفين «يتجر بالقرآن فيقرأه فى المآتم والبيوت»، بل ظل يبحث عن طريق آخر.
ولذلك كان وقع كلمة الجامعة على أذنيه غريبًا، ولكن أول ما عرف أن فى تلك الجامعة لونًا آخر من العلوم والمعرفة لم يتردد فى الذهاب إليها، بل التحق بالجامعة وهو فى الأزهر نفسه وكان يقارن بين هذا وذاك، يقارن بين «هذه الحياة المشتركة التى يتجاذبه فيها قديم الأزهر فى ذلك الحى العتيق بين الباطنية وكفر الطماعين، وجديد الجامعة فى ذلك الحى الأنيق من شارع قصر العينى. فلندعه كما كان موضوعًا للصراع بين القديم والجديد، ومن يدرى لعلنا نعود إليه مرة أخرى».
وبعد التحاقه بالجامعة يهجر الشاب وطنه ومدينته ليعبر البحر ليطلب العلم فى عالم وبلد آخر.. سيدرك فى هذا البلد أن حتى العلم الذى بدأ التعرف عليه فى الجامعة والذى لا يمكن أن يقارن بجمود الأزهر، هناك علم آخر يفوقه.. وهكذا وحده ذهب الفتى إلى باريس.
وأخذ الشاب يقارن بين ما يراه ويسمعه ويعرض عليه من المعارف فى باريس بما يراه ويعرفه فى مصر، بداية من العلوم حتى العادات والتقاليد، فتذكر الجهل المطبق المسيطر على الثقافة فى بلده، وتذكر أنه حين ولد كان عدد المصريين نحو ثمانية ملايين نسمة وأكثر من ٩٠٪ من هؤلاء لا يعرفون القراءة أو الكتابة، وبين ما يراه فى باريس، وأيضًا تذكر وضع المرأة هناك فى موطنه، ويا له من وضع مهين، وبين وضع المرأة هنا فى باريس.
فى باريس رأى المرأة الكاتبة والقارئة «التى تظهر فى مجالس الرجال وتحاورهم فتلج فى المحاورة وتخاصمهم فتعنف الخصام».
كان الأمر مدهشًا، ولذلك كان من الطبيعى أن يتزوج هذا الشاب من فتاة جميلة خفق لها قلبه، من فتيات باريس، اللاتى يستطعن أن يقدرن شغفه للعلم والمعرفة.. ويلمسن معه حلمه فى التغيير وفى تحقيق الآمال التى لا نهاية لها.
وهكذا فى الأيام نتعرف مع طه حسين على قصته، يعرى العميد مشواره وحياته ليكشف خبايا ذاته، ومن ثم يعرى وطنه ليكشف المثالب والأشياء الخطيرة التى تهدده فى كل الأزمان، هذه الأشياء المتمثلة فى الجهل والفقر والمرض والجمود، أشياء حاول هو أن يحاربها بشجاعة، وأن يقف أمام نفسه باستمرار ليتأملها، وينتقدها، ويؤكد لنفسه أنه لا يزال لا يعرف شيئًا مهما اكتسب من العلوم والمعارف، وأنه لو عرف شيئًا فسيظل جاهلًا بأشياء كثيرة لم يعرفها ولم يدركها بعد.. وأنه لا يملك سوى البحث عن هذه المعرفة ونقلها إلى غيره.
وهكذا يشاء القدر أن يكون هذا الطفل الكفيف المولود فى بيئة فقيرة لا تساعد على الحلم أو النجاح، بل تساعد على الجمود والاستقرار، البيئة التى لا يعرف من بها لماذا جاءوا إلى الدنيا ويجدون متعتهم فى أن يتناسلوا حتى ولو كانوا فقراء، فيسأل نفسه: لماذا وهو الفقير يجد أباه ينجب أكثر من عشرة أطفال؟ لماذا؟! ولماذا هناك فى وطنه نبوية موسى واحدة، ولكن فى باريس هناك آلاف النساء من هن على شاكلة نبوية موسى، من يشتركن فى تغيير وتقدم وطنهن، ولا يعتبرن أنفسهن مجرد عورة يجب سترها وحجبها.
بالإضافة لكل هذا لا تكتفى الحياة بتكتيف وتكبيل هذا الشخص المتمرد، بل تجعله يفقد عينيه بسبب الجهل والتخلف، ليحمله أخوه على كتفه وهو طفل ويذهب به إلى الكتّاب ويعود به، ويتعامل معه كل من حوله على أنه مجرد عاجز، ولكن الحياة لا تعلم أن كل هذا لا يزيده إلا إصرارًا، وأن كل هذا لا يزيده إلا عزيمة فى أن يجعل كل من حوله يدركون قيمته، بل يكون هو بمثابة النور الذى يرى المبصرون من خلاله الوجود.