المصيف زمان! «أبوقير»
اشتعلت صفحات التواصل الاجتماعى هذا الصيف بالحديث عن أحوال الساحل الشمالى، وظهر التقسيم الساخر لهذا الساحل إلى: «الساحل الطيب» و«الساحل الشرير» بناءً على مستوى الأسعار والثراء والطبقات الاجتماعية.
لفت هذا الجدل انتباهى بشدة، وكمؤرخ بدأت فى استرجاع أحوال المصايف زمان، وتبدل الزمان والمكان. وخطرت لى فكرة الرجوع إلى الماضى لبيان ماذا حدث للمصريين ولمصايفهم؟
فى الحقيقة فوجئت بوجود مصايف ربما لم يسمع عنها الجيل الحالى، وربما الجيل السابق عليه، ومن أشهر هذه المصايف «أبوقير». وأعترف بداية أنى لم أتعود على التصييف فى أبى قير، وربما لم أسمع عنها كمصيف، ولكن لحسن الحظ لدينا مادة خصبة وثرية عن أبى قير كمصيف للطبقة الوسطى المصرية، ربما من الأربعينيات حتى أوائل السبعينيات من القرن الماضى.
فى روايته الرائعة «شبرا» يقدم لنا الكاتب الكبير نعيم صبرى صورة حية ومثيرة لقضاء أسرة مصرية الصيف على شواطئ أبى قير، ولكن بداية: ما هى أبوقير؟
بالقطع ليس هنا المجال للحديث عن تاريخ أبى قير، بداية من اسمها القديم «كانوب»، أو حتى خليج أبى قير، وميناء أبى قير، ولا حتى معركة أبى قير البحرية التى سمعنا عنها جميعًا من كتاب التاريخ فى المدرسة، ولا الموقع الجغرافى لأبى قير بالقرب من الإسكندرية التى خطفت الأضواء والأهمية من أبى قير.
ما يهمنا هنا هو أبوقير كمصيف للطبقة الوسطى المصرية؛ يحكى لنا نعيم صبرى كيف كانت تقتصد أسرة بطل روايته خمسة جنيهات شهريًا وتضعها جانبًا فى مظروف من الورق كُتب عليه «مصاريف المصيف»، ومعنى ذلك تجَمُع مبلغ ستين جنيهًا مخصصة لقضاء الأسرة شهرًا كاملًا فى المصيف. وكانت الأسرة المصرية تُفضل قضاء إجازة الصيف فى شهر سبتمبر للعديد من الأسباب والمنافع؛ أولًا: لأن إيجار المصيف أرخص عادة فى هذا الشهر، مقارنة بأسعار شهرى يوليو وأغسطس. ثانيًا: مع بداية سبتمبر تنكسر حدة الرطوبة، فنحن نقترب رويدًا رويدًا من فصل الخريف، وهو فى الحقيقة أفضل فصول السنة فى مصر. وتستمتع الأسرة المصرية على شواطئ أبى قير بتناول السمان، هذا الطائر المهاجر الذى تعوَّد أن يأتى إلى السواحل الجنوبية للبحر المتوسط مع بدايات الخريف، لكن للأسف نحن الآن لا نأكل السمان المهاجر الأصلى، وإنما اعتدنا «سمان المزارع»!
وليس السمان هو الوجبة الشهية الوحيدة التى تستمتع بها الأسرة المصرية على شواطئ أبى قير، ولكن أيضًا «السردين» الذى كان يتكاثر بشدة فى ذلك الوقت اعتمادًا على طمى النيل والفيضان، قبل أن يحجز السد العالى هذا الطمى.
وتبدأ الأسرة رحلتها من القاهرة إلى الإسكندرية أولًا، لتقطع الرحلة فى حوالى أربع ساعات بالقطار الذى يُعرف بـ«الإكسبريس». ومن محطة سيدى جابر تستقل الأسرة قطارًا آخر هو أقرب إلى قطار الضواحى، يُعرف بقطار أبى قير، وتستغرق الرحلة حوالى الساعة. وتستأجر الأسرة شقة لمدة شهر بمبلغ ثلاثين جنيهًا، وتنفق الثلاثين المتبقية طيلة الشهر. وتصطحب الأسرة معها من القاهرة أدوات المطبخ كاملة، وبرطمانات السمن البلدى، لزوم الطبخ، وبرطمانات المربى، لزوم ساندويتشات الصباح على الشاطئ.
وكانت أبوقير تجمع بين شكل المدينة والقرية فى آنٍ واحد، ولم تعرف نظام العشش بشكلٍ كبير، مثل غيرها من المصايف، وإنما تشكلت من بيوت من دورين أو ثلاثة على الأكثر، يسكن أهل أبى قير فى بعض هذه الشقق، ويؤجرون بعضها صيفًا، ووسيلة النقل داخل أبى قير هى «الكارِّتة» وهى عربة يجرها الحصان.
والأمر المثير والجدير بالنظر والتحليل من جانب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، وربما التاريخ، أن شباب مُصّيِّفى أبى قير، الذين أصبحوا الآن شيوخًا، أنشأوا صفحة ذكريات لهم على وسائل التواصل الاجتماعى، أطلقوا عليها «أبوقير للأبد».