«كاتب الرواية الشعبية للسيرة النبوية والقصص القرآني».. عن الشيخ «برّين» المُتجدِّد
حكاياته المستوحاة من قصص الأنبياء لا تتمرد على الرواية الرسمية بل تشتبك معها دراميا
الجماعة الشعبية تعاملت مع أناشيده كنسخ مُبسطة للسيرة ولم تنشغل بالبحث عن مصادر ما ورد فيها
النظام القبَلي في الجنوب وفر له الحماية والمجال للتأليف بعيدا عن المد السلفي
أجرى معالجات غنائية للقصص الواردة في الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في سياق «محبة النبي»
الزمان: ليل، والمكان: قرية في صعيد مصر، والمسرح: دِكّة، والجمهور: حشد من عطاشى الطرب والمدد، والفنان: رجل كأنه شجرة وارفة.. رأسه وذراعاه ثلاثة أغصان، تميل كلما مال الهواء وتسكن كلما سكن.
ربما لسنا في حاجة إلى التوصيف الدقيق للأشياء، فالسماع يمنحنا مساحة واسعة للتخيّل..
وسط صخب الحشود، يخرج في انسجام وفوران صوت منشدنا أحمد برّين:
«يوم النبي كان في حرب العِدا صفيان/ (صافي)
نده وقال: يا علي.. هات لي قوام سيفيآن/ (سيفي أنا)
اتلمّوا الموالي الكرام حول المقام صُفيان/ (صفوف)
قال: يا صحابة سيبوا الأفكار والديني/ (الدنيء)
ولا اتّبِّعوا النفس والشيطان والديني/ (الدنيا)
ربي بعثني لحدود الشرع والديني/ (الدين)
وظهرت ديني
وأذن يا بلال صفيان/ (صافي)».
https://soundcloud.app.goo.gl/qYgMA
وهكذا، وبأداء منتعش تارة ومُلتاع أخرى، يسرد «برين» أحداث اجتماع دعا النبي محمد إلى عقده مع الصحابة، على هامش إحدى المعارك أو الفتوحات.
قد ينشغل البعض في أن يعرف، ما إذا كان لهذا الموقف الذي يحكي عنه «برين»، أساس أو خلفية في كتب السيرة أو الأحاديث النبوية.. لكن ربما يكون الأهم هو ملاحظة مساحة الحرية والاختلاف في ما يقدمه الرجل.
هو لا يحكي القصة النبوية بتكويناتها الثابتة وتفاصيلها المعروفة ولغتها الجزلة، كما وردت في القرآن أو السنة، أو سير المؤرخين على تعدد رواياتهم.. فهو ليس مؤرخا أو شيخ منبر ولا واعظ، وهو أيضا ليس فيلسوفا أو حكيما أو فنانا دارسا ومُجرِّبا، هو فقط منشد.. تنبع عبقريته الفذة من بساطته، ويتبدى عُمقه الرهيب من ذكائه الفطري، وقدرته على توظيف مَلكاته الخاصة وحصيلته من خبرات الحياة ومعاناته فيها، صانعا من صوته فضاء للجماعة الشعبية، ترى من خلاله السيرة النبوية والقصص القرآني من منظورها الخاص، البسيط غير المبتذل، والرشيد غير المتكلف، والمتحرر غير المُخل.
هو يقدم رواية شعبية للسيرة ليست موازية للرواية الرسمية، إنما تتقاطع وتشتبك معها، اشتباكا دراميا هدفه التكامل وزيادة بَراح التأمل واستقاء العبرة والحكمة، في خلطة تُشبع محبة الجماعة الشعبية وذوبانها في سيرة النبي، وهي المحبة التي يتكئ عليها أفرادها لمواصلة السعي في دروب الدنيا ومواجهة تقلباتها وأحوالها، وأساس ذلك إنما ينبع من التعلق الوجداني المترسخ بالنبي لدى هذه الجماعة، فالرسول محمد دائما رقم واحد في معادلة الدين لديها.
ولا شك أن «الكُتّاب» الذي حفظ فيه «برين» القرآن والأحاديث النبوية في صباه، قد شكل له مصدرا هاما من مصادر التلقي، كما هيّأه تهيئة فعّالة على مستويات النطق واللغة، وهو ما تجلى في أداءاته اللسانية بالغة الإتقان والعذوبة، فحينما تستمع إليه في تسجيلاته النادرة للقرآن، تستشعر وكأنك في حضرة قارئ عليم خاض رحلات من الدرَبة والممارسة، لذا فهو حينما يلْحن في النحو في بعض أناشيده لا يفعل ذلك عن جهالة، بل يأتيه تحت عذر مشمول بالملاطفة والتبسط المستنير.
وإذا تصورنا أن «الكُتّاب» على محدوديّته، قد ساهم بشكل من الأشكال في إثقال معارفه بحكايات السيرة، فإن ذلك التعلم يظل محصورا على الشكل والرواية الرسمية للقصص والتراث الإسلامي.
هنا يجيء دور التكوين والبيئة، فالمجتمع الجنوبي الذي يمتلك طبيعة وتركيبة اجتماعية خاصة، يمتلك أيضا سرديّة فنية خاصة، وهذه السردية الفنية رغم أنها لا تخلو من الأنساق، فإنها ترتبط بقدرات فائقة على الحكي وصناعة «الحدوتة» بشكل عميق ومذهل، وهذا ما شربه «برين» وغيره من المنشدين الذين استقوا غناءهم من الحكايات الموروثة، ودائما ما كان فن الإنشاد وكذلك المديح، مرتبطا بالحكاية، فالمنشدون في الجنوب عامة، حكّاءون مميزون.
يصنف علماء الجمال، الإبداع إلى نوعين، إبداع مُنتَج، وإبداع مُنتِج، الأول مصنوع واستهلاكي لا ينمو إلا ليتآكل، أما النوع الثاني فهو الخلاق القادر على الصناعة والابتكار.. ولأن «برين» موهوب بالفطرة، بل متعدد المواهب ويحمل في داخله جوهرا فنيا مُلهما، أبَى أن يكون منشدا استهلاكيا يتعايش صوته على أشعار التراث والأغنيات المعروفة وفقط.
لم يكن التأليف معضلة بالنسبة إليه، فالكثير في محيطه يؤلف ويكتب، لكن الأهم في كيفية توظيف الخيال، خاصة عندما يرتبط الحكي بالسيرة والقصص القرآني.. ولقد أطلق لخياله العنان..
هناك تعريفات أكاديمية كثيرة لمصطلح «الخيال»، منها أنه «نوع من الأدب يستطيع اختلاق أحداث غير واقعية».. لا أزعم أن «برين» اختلق أحداثا غير حقيقية في أشعاره المتعلقة بالسيرة، لكنه قدم معالجات رشيقة لبعض ما قيل في الأثر، أو ما صنفه علماء الحديث بـ«الضعيف» وربما «الموضوع».
في شريطه المسمى بـ«شريط رقم واحد» وبعد فَرْشة طربية، ينقلنا «برين» بخفة داخل قصة لدغ الثعبان لأبي بكر الصديق، داخل الغار الذي اختبأ فيه هو والنبي محمد خلال رحلة الهجرة إلى المدينة.
القصة التي وردت في بعض كتب السيرة مثل «البداية والنهاية» لابن كثير و«سيرة ابن هشام»، ذُكرت دون سند، وصنفها بعض العلماء على أنها ضعيفة.
تقول القصة إن النبي محمد وصديقه حينما وصلا إلى الغار، دلف أبو بكر إلى داخله أولا ليفحصه، ويرى ما إذا كان يؤوي أية حيوانات أو زواحف مفترسة، ووجد بالفعل بعض الشقوق التي تختبئ فيها الثعابين، فسدها بما استطاع جمعه من أحجار وخلافه، ولم يتبق غير شق واحد، فسده برجله، وحين دخل الرسول استراح على قدم رفيقه وغفلت عيناه، وبعد ذلك فوجئ الصدّيق بلدغة من الثعبان المختبئ في الشق، فكتم الألم في نفسه ونزلت من عينه دمعة وقعت على خد النبي فاستيقظ، وحينما علم بالواقعة تفل على قدم رفيقه، بإذا بالألم يذهب ويزول تماما.
يعالج «برين» الواقعة بأسْطرة ظريفة للحدوتة، مع تمثيل التفجر الحميد للمشاعر الإنسانية بين الصدِيقين، في مقابل عملية أنسنة أدبية للثعبان الذي يلتمس له «برين» العذر في لدغ الصدّيق، «فهو لم يلدغ أبي بكر إلا ليخرج من الشق ويشاهد أنوار النبي محمد»، مثلما يحكي المنشد، مختتما الملحمة بأصداء نزول الحماية الإلهية على الرفيقين، بأن وضع الحمام بيضه ونسجت العنكبوت خيوطها على مدخل الغار.
يقول:
«يا كامل الأنوار
أنتَ وأبوبكر محلا قعدتك في الغار
يوم النبي والصديق الاتنين كانوا في الغار
طلع عليهم الثعبان بدو يشاهد الأنوار
أنوار سيدنا النبي
سَدّوا بِرِجلُه الصديق.. من تحت قدمُه أَغار (يقصد: الثعبان أغار على قدمه)
صحا النبي من المنام ولقى الصديق تَعبان
تَفَل على الجرح قال له: ابرأ بلا تِعبان
الحي قال يا نبي ياللي نور جبينك بان
والله لولاك كان ساكن لحود الغار (يقصد: لولا كرامة النبي لمات في الغار من لدغ الثعبان)
يا ما صفاتك جميلة.. يا كامل الأنوار
أنت وأبو بكر محلا قعدتك في الغار
طالع الثعبان وبدو يشاهد الأنوار
من فضل ربك عليك باض الحمام في الغار
والعنكبوت خيمت واستغربوا الكفار
مشيوا وراك للجبل والعقل منهم حار
https://www.youtube.com/watch?v=OSX-mmbAMzE
ولا يخفى على أحد ما تعرضت له بنية الفكر الإسلامي من تغييرات خلال النصف قرن الأخير -ولا نناقش هنا الملابسات- لكن يدرك الجميع ما أحدثته توابع تلك التغييرات من حالة تضييق وتحفّظ على مستوى التعامل مع النصوص الدينية ومسألة التأويل، وفي بلد مثل مصر وعلى مدار عقود، نخرت النزعة السلفية في هيكل التفكير وصبغت نظرة المجتمع لكل ما هو ديني، وكان للوجه البحري والدلتا، النصيب الأكبر والمؤسف من هذا الغزو الصامت والخفي للعقل، بالنظر إلى اتساع أو غياب الروابط المجتمعية.. لكن ولأن الجنوب تسيطر العصبية القبلية على هيكله الاجتماعي، لم يستطع ذلك الغزو التوغل داخل تكويناته وتشابكاته، ومع انتشار النزعة الصوفية وسيادتها، قُطع دابر ذلك السوس إلا من تسلّلات ضئيلة وعلى مساحات أضيق بكثير.
هنا وجد «برين» وغيره من المنشدين والمداحين الحماية.. الحماية لأن يؤلف ويستعمل المجاز ويوظف الخيال ويتحرك بحرية داخل أناشيده ومواويله.. فتارة يتغزل بالنبي ويُجري على لسانه الكلمات والنصائح والحكم التي لم ينشغل جمهوره في أن يعرف مصادرها، وأخرى يعيد صياغة القصص القرآني بالزجل اللطيف مُصبغا عليه حالة حميمية، تتفق مع صورة النبي في المُخيلة الشعبية والمربوطة بالتبسط والرفق، وربما يتّسق مع ذلك المثل المتداول: «خلي البساط أحمدي».
هذه الحميمية على سبيل المثال، لم تكن متحققة في «الإلياذة الإسلامية» التي ألفها الشاعر المصري أحمد محرم، والتي نشرت لأول مرة عام 1962، وقد سبق ونشرت متفرقة في جريدتي البلاغ والفتح ومجلة الأزهر قبل وفاته عام 1945، وهي ملحمة شعرية تضم ثلاثة آلاف بيت، وسميت على غرار ملحمة «الإلياذة» للشاعر هوميروس التي يحكي خلالها وقائع الحرب بين الإغريق وطروادة، وينظِم فيها الشاعر أحداث السيرة النبوية بشكل متسلسل زمنيا، مع مقدمة نثرية لكل فصل من الفصول، وقد ظهر فيها حجم الجهد الذي بذله مؤلفها، ويمكن اعتبارها عملا تأريخيا دراميا للسيرة، لكنها ظلت حكرا على شريحة معينة من القراء، بالنظر إلى جزالتها ورصانتها والتزامها، قياسا بالفترة التاريخية التي كتبت فيها في أواخر النصف الأول من القرن، وقياسا بمستوى اللغة والثقافة لدى المجتمع آنذاك.
«برين» ابن بيئته البسيطة، كان مدركا لطبيعة الناس وللتكوين النفسي والاجتماعي لجمهوره ولرؤيته العامة للدين، وكان واعيا بابتعاده عن أي تقعر أو تعالٍ على المستمع، فقد كان يهيئ الجمهور جيدا قبل أداء أية أشعار جزلة أو تراثية، مرة بالمقدمات الطربية وأخرى بالتنغيم والتلوين الصوتي والإيقاعي الذي يختطف ألباب المستمعين، بخلاف الأشعار التي كتبها هو بنفسه، والتي تكشف الجانب الأخطر لديه في مسألة التأليف، وهو أنه لم يكن هاويًا أو مجرد كاتب أغان ومدائح، إنما شاعر مُخضرم..
وهو لم يكن ينظِم، بل يكتب بشِعرية حارّة وتمثُّلٍ بديع، كما أنه دقيق للغاية، ويبدو أنه كان يعصر مخيّلته عصرًا لصناعة هذا التشكيل المُبهر لنظام التقفية، والذي ينْبني بالكامل على آلية المفردات المتشابهة نُطقا والمختلفة معنًى، مع عمليات تدوير وربط أكثر إدهاشا بين حزم الأبيات وبعضها، وهي قدرات اكتسبها ربما من حفظه وانصهاره مع أشعار أقطاب الصوفية، ونُسخ تسبيع وتخميس البردة النبوية وغيرها.
لقد زرع هذه الأرض -أرض السيرة والقصص القرآني- بكل ما يقبض عليه من قدرات ومواهب، بل كان يستشرف هوى المستمع الجديد أو الذي من خارج البيئة الجنوبية، والذي قد يتعثّر في التعاطي مع ما يطرحه من تأويلات في حكاياته، فتراه ينشد ثم يخرج عن الغناء شارحا معنى مفردة، أو مُفكِّكا التشابك المنطوق بين كلمة وأخرى، وتراه في أحيان أخرى يُضمّن رسائل أو إشارات للإرشاد والتنبيه، حول ماهية وأبعاد تخريجاته للقصة النبوية أو القرآنية، أو لإصباغ شرعية على فكرة التوغل أو المبالغة في الحديث عن أوصاف النبي وجمالياته، وكأنه يريد أن يقول: «لست مُجدفا ولا مُبتدعا مثلما قد يدّعي الموتورون»، فتجده يعبر عن ذلك المعنى وهو يداعب تلميذه المغني محمد العجوز في شريط «السفينة»، وينشد:
«والله الطرب في المدح.. يَجوز
أُقف جنبي ماتبقاش مهزوز
خليك في مديح النبي هايم
يا ابن الكرام يابني.. يا عجوز».
كان مشغولا بشكل دائم بالمستمع، ومهموما بما قد يتركه غناؤه من آثار في عقله وقلبه، وترجم ذلك الانشغال بحرصه على أن يأخذ المستمع من يده بحنو وذوق، ولا يتركه فريسة للالتباس والتغريب وهوس المهووسين بالدين، فتجده في شريط «موسى والخضر» يقدم قصة الرفيقين، في ملحمة يمكن اعتبارها أحد أجمل درر الإبداع القصصي الشعبي، ويؤكد ويعيد التأكيد في أكثر من موضع غنائي، على أن ما ينشده -رغم أنه من تأليفه- ليس إلا استلهامًا من قصص القرآن الكريم:
«دي قصة جميلة يا محلاها
ما أجملها في معناها
إن كنت مِكذّب إلقاها
هات المصحف واقراها
في سورة الكهف هتلقاها
نزلت في كتاب الله».
https://soundcloud.app.goo.gl/7zkBH
في «موسى والخضر»، تفنن «برين» في صناعة المشهد وفي تكوين الصورة، ولم يقع في فخ السرد النمطي، فصنع ما يمكن وصفه بـ«الفلاش باك» للقصة، عائدا بها إلى مشهد أم موسى وهي ترمي طفلها في اليم ثم تشاهده وهو يكبر وحيدًا في بيت فرعون:
«أم موسى بتقول أقوم من النوم تسبقني الدموع أبكي
على ولدي وضنايا
حبيبي وضنايا
اللي رميتو وهو مِلكي
أكلمه بالأسيّة لم يروح يشكي
في القصر وحده يوحّد
لما يختلي يبكي
لما جت له العناية يا عيني
صار يضحك وأنا أبكي
بلغ رشده الغلام
بيقرأ في علوم سيده
في أول الليالي بيتلو الوِرد ويعيده
وفي آخر الليالي بيناجي الكريم في إيده (يقصد على عقلات أصابع يده)
لما جت له العناية يا عيني
صبح سيده يبوس إيده».
أداء الجوقة التي صاحبت «برين»، كانت جزءا أصيلا من الرؤية الفنية لديه، وعلى ما يبدو أنه دربها جيدا ومنحها من حسه وروحه لتتواءم مع أدائه، خاصة في انتقالاته النغمية وجواباته، فضلا عن جبر أية كسور أو نسيان محتمل لكلمات الأنشودة أو الموال، وكانت الطبلة التي يُنقر عليها بالعصا، عنصرا رئيسيا وفارقا في مسار إنشاده والخط الغنائي الذي يسلكه، ليس فقط على مستوى «موسى والخضر» لكن في كل أعماله.
يصطحبنا في حوار بين الخضر وموسى:
«قال له: أكاتبك بالألف تهجرني وتكتب صاد
أنا قلبي مليان من ذكر الإله مِنصاد
لما خرقنا السفينة كنت تعرفني ونسيت اسمي
ولما قتلنا الغلام كنت حبيبي وبقيت خصمي
ولما هدّينا الجدار أنت والأيام على جسمي
آدي جزات اللي نزل عكّر وغيره صاد».
يكرر «برين» تأكيده على أن تجويده في صياغة وتقديم القصة ليس معناه أنه يخترع شيئا من عنده، فيقول وهو يصف مشهد «التجلي»:
خر صعقا من الخجل
يوم أن دك له الجبل
كلامي ولا وِنّه زجل
دا مروي من كتاب الله».
ويعيد التذكير بذلك في موضع آخر، مرشدا المستمع إلى أنه لم يخرج عن الإطار أو الفلسفة العامة لسورة الكهف التي وردت بها القصة، مقدما عرضا أشبه بالحراك الجغرافي للسورة القرآنية:
«سورة الكهف جميلة يا عين
نزلت على نبينا الزين
أولها يحكي أهل الكهف
وبعد كدا حكاية الرجلين
إن كنت أمشي في سورة الكهف
هاروح لاسكندر ذو القرنين
وإن كنت أختم آخر السورة
يأجوج ومأجوج ساكنين فين؟
لكن خلينا مع الخضر وموسى في مجمع البحرين
في الكهف زايد تشريفي
وبدت القصة من تأليفي
وبدا الزجل من تأليفي
أرويه لأهلي بتعريفي
مددين يا أهل التصريف
يا آل بيت رسول الله».
https://soundcloud.app.goo.gl/qPxqE
العجيب في تجربة «برين» أنها متجددة وتستعصي على الإحاطة، بالقياس إلى حجم التسجيلات والشرائط التي سُجلت لأعماله، في مقابل الإمكانيات المحدودة وشبه البدائية من أدوات العزف أو التسجيل والتوثيق، بالنظر إلى رحلته الطويلة وتنقلاته الرهيبة بين البلدان والقرى لإحياء الحفلات والليالي، باستثناء بعض التجارب القليلة في التسجيل داخل الاستوديوهات، ولعل أبرزها تسجيله بعض الأشرطة في رحلتيه إلى فرنسا وإلى المغرب.
وإذا كنا تناولنا في السطور السابقة، تجربة «برين» في سياق التأليف حول محور السيرة والقصص القرآني، فإن ذلك لا يعد إلا جانبا صغيرا في حجم إنجازاته وعظمته، وهو ما يستدعي مزيدا من التدقيق والتبحر في محيط طربه وتجلياته في كتابات قادمة.