نزار الصياد: أشرفت على تطور الفكر المتعلق بالتراث.. و«الكمبوندات» فن صناعة العزلة (حوار)
- علمتني التجربة أن أختار مترجمي أعمالي للعربية
- إسناد ترجمة أعمالي إلى آخرين نتيجة أن أغلب أعمالي قدمت بالإنجليزية منذ 30 عاما
- القاهرة الخديوية هي مدينة أجنبية تمصرت مع الوقت
- الكمبوندات هي فن سيئ لصناعة العزلة
نزار الصياد واحد من أبرز أساتذة العمارة والتخطيط والتاريخ العمراني في العالم، ليس فقط في مجال تدريس العمارة وتاريخها والتنظير لها، ولكن لكونه أحد أبرز المفكرين الذين يمكن وصفهم بالموسوعيين، ومن هؤلاء الذين ربطوا العمارة بالحالة السياسية والتاريخية والدينية للمجتمعات.
ويعد أحد أبرز هؤلاء الذين خرجوا بالعمارة كعلم من داخل أسوار الجامعة إلى طرحها لعامة القراء، وتفسير وجودها بطريقة جذب واستعادة قراءة الهوية عبر العمران.
يذهب “الصياد” إلى أن هوية العمارة في مجتمعاتنا تصنعها السلطة، سواء دينية أو سياسية أو اجتماعية، ويؤكد في حوارنا معه أن النشاط الديني يلعب دورا في هوية العمران، وأن المجتمعات التي تم استقلالها تنسب عمران الاستعمار لتاريخها.
د. نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط والتاريخ العمرانى فى جامعة كاليفورنيا، بيركلى، ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط « CMES»، والمؤسس والرئيس السابق للجمعية الدولية لدراسات البيئات التقليدية «IASTE»، له العديد من المؤلفات من بينها: النيل، مدن وحضارات على ضفاف النهر، تقاليد التراث، المدينة الأصولية، العمران السينمائى، نهاية التراث، عشوائيات العمران، العمران المهجن، نماذج الهيمنة بالعمران، مدن وخلفاء، والعديد من الكتب التى تتناول العمران. كان لنا معه حوارا عن المدينة وتاريخها وعمارتها.. وإلى نص الحوار:
ماذا عن البدايات؟
ذهبت إلى أمريكا وأنا في سن مبكر جدا مع العائلة لظروف عمل الوالد، كنت نسيت اللغة العربية هناك، وعندما عدت لمصر، حرصوا على أن أتعلم العربية وإجادته إجادة تامة.
وتخرجت من الجامعة كلية الهندسة، وكان عمري 21 عاما، وحصلت على الماجستير، لم يتجاوزعمري الـ 24 عاما، وعملت بالجامعة السعودية لمدة عامين، أدركت أن لدي ملكة تخيل الكتابة وممارستها، وكان أول كتاب اشتغلت عليه “شوارع القاهرة الإسلامية” عام 81، وكان جزء من رسالة الماجستير التي اشتغل عليها.
عندما بدأت العمل في الجامعة السعودية "البترول والمعادن"، فكرت أن أنجز رسالة الدكتوراه، وجاء في ذهني أن أعمل على كتاب يكون محور تلك الرسالة، وبالفعل كان كتاب "مدن وخلفاء" هو جزء من رسالة الدكتوراه.
غريب أن أغلب أعمال المعماري نزار الصياد نشهدها مترجمة من الإنجليزية إلى العربية، هذا يدفعنا للسؤال ماذا عن أسباب ذلك، ولماذا لم تكتب بالعربية مباشرة؟
الحقيقة يرجع هذا إلى سبب رئيس، وهو أن أغلب تلك الأعمال التي ترجمت إلى العربية، قد أنجزتها منذ ما يزيد عن الـ 20 عاما، وبطبيعة الحال كانت بالإنجليزية، ونشرت عبر دور النشر الجامعات الأمريكية.
وعندما حدثت ثورة يناير كان كتاب "القاهرة تواريخ مدينة" قد نشر عقب الثورة وحقق نجاح كبير، وحدثوني لترجمته إلى العربية، وذلك عبر المركز القومي للترجمة، ورحبت، ولكن واجهتني مشكلة حقيقية أن بعد انتهاء ترجمة الكتاب من الإنجليزية إلى العربية دفعوا به إلي لمراجعته، وللأسف كانت الترجمة رديئة وسيئة مما دفعني إلى إعادة ترجمته مرة أخرى، وأخذ ما يقرب عام كامل، فقد قمت بإعادة ترجمته كاملا، وكان من حسن حظي أن دار النشر الأمريكية قد وضعت من ضمن شروطها أن لا ينشر الكتاب إلا بموافقة المؤلف واعتماده الترجمة.
الحقيقة أن المركز يدفع للترجمة لبعض الأشخاص الذين ليس لهم علاقة حقيقية بموضوعات الكتاب، وهذا يجعل الأمر في غاية السوء.
هذه التجربة علمتني أن اختار مترجمي أعمالي، ولهذا جاء كتاب "النيل" والصادر عن دار الشروق بترجمة المهندس المعماري عصام الشربيني ومراجعتي، ولهذا حصد الكتاب احسن جائزة كتاب مترجم عبر معرض القاهرة الدولي للكتاب.
أما التقاليد والتراث فقد ترجمته أميمة صبحي، وراجعت كل فصل معها.
هل ثمة ضرورة لربط المعمار بالحالة السياسية والاجتماعية لعالمنا؟
العمران ممثل الدولة هذا ما ذهب إليه ابن خلدون، بل وصفه بأنه يمثل الحاكم والدولة السياسية، وانهيار العمران يظهر أشياء كثيرة في العلاقات الشعبية، بداية لا أعتبر نفسي مؤرخ معماري، واهتمامي بالعمران يرجع إلى المعنى الرمزي للعمران في النطاقات السياسية والاجتماعية سواء كانت مدينة أو قرية.
ممكن قراءة الحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لمدينة ما عبر العمران، وأحيانا يكفي ويعبر عن رغبات وأشخاص وأماني للحالة الاقتصادية.
- "لا يمكن لأحد منا أن يهرب من التراث، يوما ما سنستخدمه" كيف يمكن ربط هذه الحالة ودلالتها في سياق تاريخي سياسي واجتماعي.. هل مرتبط بالعمران في مصر؟
يجب الإشارة أولا إلى أن هذا ما جاء في كتاب "التراث والتقاليد" وهو كتاب فلسفي إلى حد كبير، فقد ذهبت وأصدقائي في نهاية الثمانينات إلى إنشاء المنظمة الدولية لدراسة البيئات التراثية، كان هدفنا وقتها تصنيف المباني ليست فقط التاريخية ولكن ذهبنا إلى أبعد من هذا بدراسة المعماري التقليدي، قدمنا ما يقرب من 18 مؤتمرا، وكل مؤتمر يخرج منه كتاب وأقوم شخصيا بالإشراف عليه، بمعنى أدق يمكن أن تقول أشرفت على تطور الفكر المتعلق بالتراث والنظرة إليه من مختلف الثقافات ومن مختلف المجالات العلمية التاريخية والجغرافيا إلخ؛ وبالتالي فإن وجهة نظري في "التراث" وهي المفردة التي ليست لها مقابل في اللغة الإنجليزية. ويمكن القول إنني أول من صك مصطلح تقاليد التراث ونظر له.
-"أحيانا ما نستخدم التراث في تقديم اتخاذ موقف محدد سواء سياسي أو اجتماعي" كيف يمكن اللجوء للتراث في حل أزمات اليوم واتخاذ مواقف بعينها ؟
في مصر لدينا تراث إسلامي وتراث فرعوني وتراث مصر الحديث، ولما تنظر للسياسة و تغير السياسيين في مصر الحديثة منذ عام 22 إلى الآن، ستجد كل حاكم وكل حقبة سياسية اختارت شيء ما من التاريخ لتعريف الهوية المصرية تعريفها سياسيا تاخد شكل معين العمران.
هل السلطة من تصنع هويات مجتمعاتنا؟.. وماذا عن هوية المعمار التي نعيش فيه هل هو اختيار الشعوب؟
هوية المجتمعات تصنعها الشعوب، أما هوية المعمار فتصنعها السلطة دوما في جميع الحضارات، وقد تكون هوية المعمار ليس لها علاقة حتى بتاريخ الوطن.
الشعوب دوما تنظر إلى العمران الذي أقامه الاستعمار كجزء من تراثها العمراني.. هل ينطبق هذا على مدينة القاهرة ؟
بالتأكيد لو نظرت إلى عمران "القاهرة الخديوية" ليس له أي علاقة مثلا بـ "القاهرة الفاطمية" والسياح عندما كانوا يأتون إلى مصر في نهاية القرن 19 عصر الخديوي إسماعيل، كان يقيمون في القاهرة الخديوية "الجديدة" ويذهبون إلى القاهرة الفاطمية "القديمة" كسياحة.
القاهرة الخديوية هي مدينة أجنبية تمصرت مع الوقت، وذلك يرجع إلى استعمال المصريين لها، والتغييرات فيها جعلت شكلها مستساغ، فالنظرة إلى العمران غالبا ما تتغير مع الوقت.
ثمة العديد من المصطلحات التي أشرت إليها في كتابك “التراث والتقاليد” منها عمران الدولة القومية.. ماذا يعني وهل يمكن وصف عمران مصر بهذا المعنى؟
بداية علينا الإشارة إلى معنى عمران الدولة القومية أو الوطنية، وهو يعني أن مجموعة الأفراد الذين يعيشون في تلك المنطقة يحملون لغة واحدة تربطهم عادات وتقاليد واحدة. في القرن الـ 18 لم تكن هناك ما يسمى الدولة القومية، كان هناك إمبراطوريات 6، و فكرة الدولة القومية ظهرت نهايات القرن الـ18 وازدهرت نهاية القرن الـ 19، وبدأت الدول تحكم نفسها في نهاية القرن العشرين، ومن بعد استقلال الدول المستعمرة لم يجدوا إلا أن يكون أعمارهم امتداد لما قدمه الاستعمار فيها.
وأفضل نموذج على هذا الهند "الهندوس والمسلمين" لما دخلوا حرب الاستقلال لم يفكروا في هذا، وعندما انتهى الاستقلال فكروا في تقسيم أنفسهم على حسب قوميتهم ولغتهم. هذا نفسه ما قسم يوغسلافيا القسمة إلى 6 مناطق، بعد رحيل تيتو، قسمت يوغسلافيا.
هل يمكن وصف مصر بالدولة القومية؟
بالتأكيد نعيش في مصر كدولة قومية، إلى جانب أننا ليس لدينا مشاكل الدول القومية التى تعيشها دولة مثل العراق كنموذج، والتي تتكون من مجموعة عرقيات مختلفة.
نحن الآن دولة قومية نيوبرالية، قد ننتمنى للعالم العربي والإفريقي والإسلامي، انتماءاتنا تأتي على حسب مصالحنا.
ماذا عن النشاط الديني ودوره في رسم خريطة معمارية للمكان.. حدثنا عن دوره وأثره في مصر؟
لدي كتاب قيد الطبع، وهو يتكلم عن التطرف الديني سواء إسلامي أو مسيحي أو هندوسي أو يهودي. وكيف أن هناك دول تقام على عنصرية دينية ، وكيف للننشاط الديني دور مؤثر على العمران.
في عام 1990 حظرت من خطر تقسيم العالم إلى عالم أول وثالث.. لماذا؟
جاء هذا في وقت كان الوضع يشير إلى هذا الانقسام، وجاءت تعبيرا عن الوضع في تلك المرحلة، كان هناك مازال حائط برلين يقسم بين ألمانيا الشرقية والغربية، كان الاتحاد السوفيتي ما زال قائما، كنا نعرف أن ثمة انهيار قادم.
كان هناك عالم أول وهو صاحب الرأسمالي، وكان هناك ما يسمى العالم الثاني الاقتصاد الموجه الصين وكوريا الشمالية، والعالم الثالث هو دول عدم الانحياز، قلت إن لو العالم الثاني اختفى فهل هذا سيرقي دول العالم الثالث؟.. وكنت أقول هذا على سبيل الدعابة.
الآن هناك مصطلح يستخدمه العالم دول الشمال ودول الجنوب، وهذا ليس وصف جغرافي صحيح، ومعني بالدول المتقدمة وأخرى التى تعتمد عليها. التصنيف ليس فقط حالة اجتماعية وثقافية.
هل ثمة تقاطعات تجمع الشرق بالغرب في العمران؟
ليس هناك عمران ينتج دون تعامل شعبي، ويمكنك سؤالي ماذا عن أكثر شيء ترى أنه مصري؟ سأجيبك بأن العشوائيات هي أكثر شيء يمثل مصر، والسبب بسيط لو نظرت إلى فينسيا وغيرها كان لا يعاش فيها، ولكن التنسيق والتدخلات التى حدثت عبر إعادة بناء مباني أخرى.
والحقيقة يصعب إزالة عشوائيات مصر الآن، خاصة أن نسبة العشوائيات في القاهرة الكبرى تقترب من 75 % من مساحتها.
هل ثمة صراع قائم بين التطور العمراني الحديث والتقاليد التراثية؟.. وماذا عن تأثير ذلك في البيئة العمرانية التقليدية؟
لا يوجد صراع حقيقي، خاصة في مصر، والسبب أن الصراع يكون بين قوتين متكافئتين، الحداثة العمرانية جاءت بكل تطورها في المقابل لا يوجد اهتمام بالتراث من قبل الشعب المصري.
الكمبوندات هل تصنع طبقية اجتماعية.. وهل كانت هذه موجودة من قبل؟
الحقيقة أن الكمبوندات هى فن صناعة العزلة وصناعة الطبقية الاجتماعية، وستجد ذلك على مر التاريخ مثل الفسطاط والقطائع لأحمد بن طولون، والقاهرة الفاطمية وغيرها، وهذا ما خلقه المستعمر، وانتقل هذا إلى طبقات بعينها.
كيف ترى انتقال الريفيين إلى المدينة والاستقرار بها؟.. هل خلق نمط معماري معين لها؟
انتقال الريفيين إلى مدينة خلق ظاهرة ترييف المدينة، حدث في كثير من مدن العالم الثالث وذلك عبر مرحلة الاستقلال، وجاءوا معهم بثقافة الريف، وهذا يؤثر في العمران. وهذا ما خلق تحول أسطح أغلب العمارات السكنية إلى عشش للدواجن.